بيان سياسوي متوتر؛ وإن استقوى ممضوه بصفاتهم الأكاديمية.
من مفاخر الجامعة في تونس أنها لم تحظر أي موضوع في وجه طلبتها الباحثين… ولم تنجز فيها أطروحات عن حكامها… بل رأينا طلبة ينجزون أطروحات جامعية عن عملية قفصة المسلحة وعن انتفاضة الخبز وعن اليوسفيين زمن حكام يعادون هذه الحركات الإجتماعية (اسألوا نور الدين العلوي ومنذر الشارني ومختار الناصري؛ وغيرهم كثير…) وهذا شرف الجامعة التونسية مقارنة بالجامعات الواقعة في قبضة الشبيحة في مشرقنا العربي الأسير!!!
وتصدى أساتذتها لتعليمات البوليس السياسي النوفمبري بحرمان الطلبة "الإسلاميين" من مواصلة دراستهم ساعة خروجهم من السجون… لكن ذلك لا يعني أن الجامعة التونسية لم تكن مؤطرة بخيارات أسطورة "الأمة التونسية". كتب عن ذلك المؤرخ الأزهر الغربي قائلا:
بالرغم من أهمية الإستقلال السياسي وتأسيس الجامعات الوطنية لم تكن القطيعة كاملة مع المرحلة الإستعمارية؛ إذ لعب بعض الجامعيين الفرنسيين أمثال شارل أندري جوليان دورا في إحداث كلية الآداب بالرباط وساهم الإطار الجامعي الفرنسي بدور فعال في تقديم المادة المعرفية وتأطير البحث الجامعي في تونس وذلك في إطار الاتفاقيات الثقافية المبرمة غداة 1956. ولم يكن هذا التواصل ليحجب المهام الجديدة للجامعات المغاربية إذ كانت جلها مرتبطة بوزارات تربية "وطنية" وأفرزت برامج تعليمية رسما ملامحها الدولة الوطنية الناشئة… ففي مجال التاريخ اتجه البحث في اليلاد التونسية نحو التاريخ القديم خاصة المرحلة البونية والرومانية للتأكيد على تجذر "الشخصية التونسية" وقدمت عدة شخصيات كنموذج لهذه الهوية مثل سانت اوغيستان وحنبعل؛ بل أكثر من ذلك تمت مقارنة بورقيبة في نضاله صد فرنسا بحنبعل وبطولته أمام الرومان… ولم تكن الجغرافيا لتحيد عن هذا المسار إذ تدعمت "الجغرافيا القُطرية" ودرست "الخصائص" الطبيعية والبشرية…. ولم يكن علم الإجتماع أو الفلسفة لتشذ عن هذه القاعدة المتمثلة في محاولة دراسة وتحليل الظواهر على مستوى وطني أولا وقبل كل شيء…. واتخذ الأدب سواء باللسان العربي أو الفرنسي نفس المنحى فأصبح المسعدي و"السد" رمزا للأدب التونسي والبناء الوطني وتحول أبو القاسم الشابي وقصيدة "إرادة الحياة" إلى صورة مجسدة للإرادة الوطنية…. وأصبحت كليات الآداب والعلوم الانسانية مخبرا لصنع الإطارات والأفكار والقيم والنظريات التي تستند إليها الدولة الوطنية…… (مقتطف من مقال علمي محكم بعنوان: كليات الآداب والعلوم الانسانية من البناء الوطني إلى معول العولمة).
للمرة الثانية تطل على التونسيين عريضة تحمل ستين إمضاء للرد على هيئة الحقيقة والكرامة!!!
أعتقد لو تولى الرد متخصصون في تاريخ تونس المعاصر العارفون بدقة المواضيع التي تخوض فيها الهيئة؛ لكان حديثهم مقنعا وهادئا وبنّاء. أما وقد تولى الرد مؤرخون في غير الإختصاص فقد طغى التوتر والحسابات السياسوية التي أساءت لهم وزادت من تعاطف الشعب الموجوع مع الهيئة في حين أصر هؤلاء على لغة كهنوتية مغلقة تصم الشعب العميق بالعوام!!!
ساعة حاكم العسكر الفرنسي ضابطا فرنسيا (دريفوس) بتهمة الخيانة الوطنية. خرج من رحم الجامعة الفرنسية من قادوا معركة ميلاد المثقف.. وكان بيان المثقفين le manifeste des intellectuels بتاريخ 14 جانفي 1894 بتوقيع أسماء ذات وزن كبير…. لمواجهة جماعة "مصلحة الدولة". كتبوا احتجاجا على المحاكمة قائلين:
نعم إن العدالة هي أساس المجتمع؛ ولكن ليست المحاكم بل الحق هو مؤسس العدالة… وشرف رجل ليس أقل من شرف جيش بأكمله…. فأن تعتقل إنسانا على أساس جرائم لم يقترفها ليس فقط خرقا للقانون بل هو أيضا جريمة قضائية… وادعاء مصلحة الدولة ليس غالبا إلا إخفاء لجرائم الأوليغارشية…. وكان الإنتصار والحكم ببراءة دريفوس.
لقد خاضوا المعركة ليس بعقلية ما إذا كان دريفوس متورطا أم بريئا، بل بعقلية هل كان الرأي العام مستعدا لمواجهة السلطة إذا ثبتت براءة دريفوس. قال الفيلسوف ألان: لما تبين لي أن قواد الجيش كانوا يفخرون بارتكاب الخطأ بل ويستغلونه لتذكيرنا أنهم يحكموننا بالقوة ارتميت في أحضان المناصرين لدريفوس. لقد أقسمنا ألا نهتف أبدا بعدما جرى "يحيا الجيش".
هكذا أدوار الجامعيين يا حضرات: تأسيس الجامعة النقدية في مواجهة منطق جامعة السلطة!!!!
بيانكم
هذا غريب عن زمن الشعب يريد كشف الحقيقة. لا أكثر ولا أقل!!!