منذ أيام، قال لي صديقي، أقرب أصدقائي الذي تربطني به علاقة صداقة وطيدة تمتد إلى ثلاثة عقود خلت، ، لا أدري تعليقا على تدوينة نشرتها أو على نشاط ما قمتُ به : "شفت كيفاش ما تعرفوش تعملو السياسة !".
أجبته : "شكون أحنا و كيفاش ما نعرفوش نعملو السياسة ؟".
فردّ عليّ : "نتوما ؟ إنت وجماعتك المعارضين لقيس سعيّد... ( !!!) ما تنجّموش هكّا تربحو معاكم الرأي العام... يلزمكم تنقّصو شوية من اللهوة بيه، سيّبوه الراجل... و تكونو موضوعيين معاه : وقت اللي يعمل حاجة خايبة، قولو عليها ؛ أمّا زادة وقت اللي يعمل حاجة باهية، قولو عليها، ما كانش بش تفقدو مصداقيتكم قدّام الناس...".
ففهمتُ حينها أنّ صديقي لم يفهم شيئا، لم يستوعب بعد خطورة الموقف... واكتفيتُ بالقول له بشيء من التهكم : "هاني ربحتك إنت معانا : le fait اللي قاطعت الاستفتاء، يعني اللي أنا نجحت في إقناعك بحاجة alors que عمناول في 25 جويلية كنت مع قيس سعيّد، وهذا يكفيني...".
كل يوم تقريبا، أسمع كلاما من هذا القبيل سواء مباشرة من بعض الصديقات والأصدقاء أو على ألسنة بعض الإعلاميات والإعلاميين و الكرونيكورات...
نقد المعارضة ومهاجمتها والتهجم عليها واعتبارها فاشلة كمعارضة، والقول بأنها خابت في تعبئة الجماهير ضدّ السلطة، وبأنها معزولة ومنقطعة عن "الشعب" وعن مشاغله اليومية وهمومه المعيشية، و بأنه يجب عليها ابتكار أساليب جديدة قصد "الوصول للشعب"، وأنه عليها تطوير خطابها والانتشار في كل أنحاء البلاد من جهات داخلية وأرياف وأحياء "شعبية" بالمدن الكبرى... هذا الخطاب تعوّدتُ عليه منذ صغر سني، منذ أواسط الثمانينات على الأقل…
فالزعيم الحبيب بورقيبة لم يستبد بالسلطة إلا لأنه وجد معارضة فاشلة... وهذا نفس حال خلفه... والثورة لم تصنعها المعارضة، بل قام بها "الشعب" بصفة عفوية، "ثورة بلا قيادة"... ثم، إثر الثورة، نجحت حركة النهضة ومن بعدها نداء تونس وأخيرا قيس سعيّد بكل بساطة لأنّ المعارضة مشتّتة وفاشلة... خطاب أصبح مألوفا يحاول أصحابه تصوير المعارضة على أنها "أقلية بورجوازية لا هَمَّ لها سوى الدفاع عن حقوق الانسان والديمقراطية دون الاكتراث بمشاغل الشعب الحقيقية"...
هذا الخطاب مليء بالمغالطات، تنقصه الدقة... فما معنى القول مثلا إنّ "المعارضة لا تهتم إلا بحقوق الانسان دون الاكتراث لهموم الشعب" ؟ !! فهل أنّ الشعب ينتمي لجنس آخر غير الانسان ؟ ! أعلم أنّ أصحاب هذا الخطاب يقصدون بحقوق الانسان الحريات الفردية وحقوق النساء والمساواة التي لا يستسيغونها بتاتا نظرا للذكورية والهرمية التفاضلية الاجتماعية الجاثمة على أدمغتهم... فقضايا الحريات الفردية والمساواة تهم أولا وبالذات المهمشات والمهمّشين، ولا تكاد تهم ما يسمونه "البورجوازية"...
لَمّا أسألهم عن مقترحاتهم فيما يخص "الأساليب والمقاربات الجديدة" التي يتعيّن على المعارضة ابتكارها، يصيبهم الاضطراب والتردد، فيتلعثمون أثناء الإجابة، ثم يقدِّمون لي اقتراحات سخيفة وقديمة وبالية، لا ابتكار ولا خلق ولا إبداع فيها... كلها جُرِّبَت، بعضها نجح وبعضها الآخر فشل... ثم أكتشف أنهم غير مطّلعين على جل الأمور... على النقاشات التي وقعت في أوساط المعارضة خلال العشرية الأخيرة، وأنهم يرددون مجرد شعارات جوفاء حول ضرورة ابتكار المعارضة لأساليب جديدة...
وحين أسألهم ماذا يقصدون بالمعارضة، يجيبونني بكل بساطة وسطحية : "الأحزاب والمجتمع المدني"...
لا يريدون أن يفهموا رغم قولي وتكراري، أنّ المعارضة معارضات، أنها ليست كتلة واحدة متجانسة... وأنّ الأحزاب مختلفة عن بعضها البعض وأنها مختلفة عن منظّمات وجمعيات المجتمع المدني وأنّ الأخيرة متنوعة جدا ومختلفة عن بعضها البعض سواء على مستوى ميادين النشاط أو أساليب وطرق العمل...
خطابهم تنقصه الدقة، فنداء تونس مثلا والذي لم أسانده يوما، كان في البداية حركة معارضة تكونت بهدف الفوز في الانتخابات وافتكاك الحكم بطريقة ديمقراطية من حركة النهضة. والأخيرة لم تولد هي الأخرى في السلطة، بل كانت حركة معارضة قبل الثورة... ونفس الشيء بالنسبة لقيس سعيّد والشعبوية، فقد أتى من خارج المنظومة أي أنه كان معارضا، ونجح في الفوز بالانتخابات الرئاسية لسنة 2019 والوصول للحكم، ولو أنّ هذا القول يقتضي التنسيب حيث أنّ قيس سعيّد استفاد من دعم المنظومة الإعلامية والسياسية المتمثّلة في حركة النهضة... ثم، انقلب بعد ذلك على أنصاره النهضاويين...
أما أصحاب الخطاب المهاجم للمعارضة اليوم، فأغلبهم من المستقيلين السلبيين الذين لا ينشطون في أيّ حزب أو جمعية... يكتفون بـــ "التنبير" على المعارضة... دعوتهم عشرات المرات للمشاركة في عدة أنشطة وتظاهرات حزبية وجمعياتية، فلم يلبوا تقريبا أبدا الدعوة بدعوى إما انشغالهم أو عدم تلاؤم النشاط أو التظاهرة مع توجهاتهم... وتوجهاتهم الوحيدة، هي الجلوس على الربوة وعدم اتخاذ أيّ موقف علني حاسم،
يكتفون بممارسة هوايتهم المفضّلة المتمثِّلة في "التنبير"... حين أقول لهم : "تفضّلوا بالتحرك والنشاط، كوِّنوا أحزابا أو جمعيات أو حتى شركات أو تعاونيات أو نواد أو حوانيت لمعارضة النظام القائم حاليا"، يردّون بأنّ المعارضة القائمة حاليا لا تعجبهم... منطقهم السفسطائي هذا يصوِّر المعارضة في شكل عضوي، لا وظيفي... يحاولون "التسويق" لفكرة مفادها أنّ الأحزاب والجمعيات مقاطعات في نظام إقطاعي لا مكان فيه لغير سيّدات وأسياد تلك المقاطعات... كأنّ المعارضة شهادة مِلكية لأقلية أو عنوان ثابت un titre للبعض الذي يسيطر على الساحة... مجرد أوهام معشِّشة في أدمغتهم يحاولون من خلالها تبرير تقاعسهم عن الحركة والنشاط... فالساحة مفتوحة لا يحتكرها لا حزب ولا جمعية...
ولكن، لو توقّف الأمر عند حدّ التبرير هذا، لهان... فالأدهى والأمرّ، هو أنّ أصحاب الخطاب المهاجم للمعارضة اليوم، هو أنهم يناصرون بشكل من الأشكال قيس سعيّد... إلا أنهم لا يفصحون عن ذلك صراحة، فيعتمدون استراتيجية اتصالية خبيثة قوامها التنكر والتخفي أي التظاهر بعدم مناصرته والتنصل مما هو بصدد فعله، مع عدم التردد في توجيه سهامهم لا فقط للمعارضة الحزبية والجمعياتية المهيكلة، بل كذلك لكل صوت ناقد له، حتى لو كان فرديا معزولا في ركن ما من أركان منزل أو مقهى...
وهذا حال صديقي، أقرب أصدقائي وأقدمهم...
صديقي الذي لم يستوعب بعد خطورة ما أتاه قيس سعيّد مساء 25 جويلية من العام الماضي، 2021… صديقي الذي لم يفهم بعد معنى كلمة "انقلاب"… صديقي الذي يطلب مني التعامل بموضوعية وحياد مع قيس سعيّد، مع المنقلب… صديقي لم يفهم بعد أنّ كل ما يصدر عن المنقلب سيّء بالضرورة، لا "خير" ولا صلاح فيه… "شر" كله… صديقي لم يفهم بعد أنه لا حياد ولا موضوعية مع الانقلاب والمنقلب…
وبهذه المناسبة، أود تذكيره وسائر الصديقات والأصدقاء أنه مرّت اليوم، الخميس 25 أوت 2022، ثلاثة عشر شهرا على انقلاب 25 جويلية 2021، الذي قاده قيس سعيّد ضدّ الشرعية الدستورية وضدّ مؤسسات الدولة والهيئات الدستورية المستقلة الواحدة تلو الأخرى، ووضع به أركان نظام رئاسوي مقيت…