عنف لفظي ونفسي ومعنوي وجسدي وجنسي ورمزي وسياسي ومالي (اقتصادي) مسلط على النساء والفتيات والأطفال... عنف مسلط عليهن من الجميع، الأب والأخ الأكبر والأصغر والزوج والخطيب والأم والحماة والجار وكبير الحومة وصغيرها والمعلِّم والأستاذ والإمام والحاكم والرئيس المهني والزميل والمار في الطريق و "الصديق" في الفايسبوك... عنف مسلط عليهن في المنزل والحي والشارع والمقهى والحانة والمطعم والملهى اليلي والنزل والشاطئ والغابة والحديقة العمومية والمسجد والمدرسة والمستشفى وموقع العمل والحافلة والقطار والتاكسي ووسائل الإعلام وشبكات "التواصل الاجتماعي" وسائر الفضاءات العامة والخاصة... فضاء لغوي قوامه العنف الجندري...
حيثما حللن، يجدن تربية ودروسا وتوجيها ورقابة واستهزاء وسخرية وتحقيرا وضغطا وسبا وشتما وتحرّشا واغتصابا... حيثما حللن، يجدن عنفا... وإذا هربن، يجدن عنفا... أينما حللن، أينما هربن، ثمة مَن يتربَّص بهن... الكل يوجههن ويربيهن ويراقبهن ويتربّص بهن، بحركاتهن وسكناتهن و "أخطائهن"...
عنف مستشر منذ آلاف السنين... عنف يجد جذوره في التمييز والهيمنة... في الأبوية-الذكورية le patriarcat التفاضلية... عنف يجد أصوله وتعبيره في خطاب ماهوي essentialiste et naturalisant حول "طبيعة المرأة المختلفة عن طبيعة الرجل"، خطاب قائم على قاعدة مفادها أنّ "المرأة كائن جميل وحساس يجب صونه" أو أنها نقيض ذلك تماما بما أنها يمكن أن تكون "شيطانا يغوي ويغري، كيدها عظيم بما يوجب الحذر منها وتجنبها واتقاء شرها"... خطاب يعكس خوفا من حرية النساء ومساواتهن مع الرجال، ومن تحررهن من القيود الأخلاقية والدينية المضروبة عليهن، ومن سلطة وأغلال التقاليد التي تحكمهن... خطاب يُعَبِّر عن البنية الثقافية والاقتصادية والسياسية للمجتمع القائمة على الثنائية التفاضلية لقيم الذكورية والأنثوية، وما يترتب عنها من توزيع الأدوار في الفضاء العام وخاصة في الفضاء المنزلي... هي لها الهدايا والورود والعطور والدموع والإغراء وتلبية الدعوات والعناية به وبالأبناء والسهر على راحة المحيطين بها برقتها وبما أوتيت من صبر وطاقة تَحَمُّل...، أما هو، فله السيف والعمل والمال والمبادرة والدعوة والشهوة le désir ... هو له "الرجولية بحكم الطبع"... أما هي، فيمكنها أن "ترتقي للرجولية إذا كانت في المستوى"، أي إذا توفرت فيها "مواصفات المطابقة الاجتماعية"...
عنف يجد جذوره في التمييز...
--"أين الدولة ؟" تصرخ المناضلات النسويات والمناضلون النسويون ! الدولة التي، في المجتمعات الحديثة، من المفروض أن تحمي كرامة الناس جميعا، نساء ورجالا، وبالخصوص أولئك الموجودين في وضعيات استضعاف وهشاشة ؛ الكرامة وما تتطلب من حقوق وحرية ومساواة وعدم تمييز...
شخصيا، لا أحبّذ استخدام مفهوم "الدولة" في الحقبة الراهنة من التاريخ التونسي، فالبلاد تسيّرها حاليا مجموعة من الإدارات والمحاكم بواسطة القوة المادية المستندة إلى حد ما لنصوص ذات صبغة قانونية. ليست دولة بمعناها المكتمل...
على كلّ، الدولة وبضغط من الحركة النسوية، سنّت قانونا، هو القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المؤرخ في 11 أوت 2017 والمتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة. هذا القانون الأساسي يتضمّن بابا يحتوي أحكاما متعلقة بالوقاية من العنف ؛ هذا الباب، الباب الثاني، ما يزال إلى حد اليوم ينتظر التطبيق... ولكن وبواسطة الأوامر الحكومية (سابقا) والقرارات الوزارية والمناشير، حَوَّل أغلب رؤساء الحكومات ووزراء ووزيرات العدل والداخلية وشؤون المرأة والصحة والشؤون الاجتماعية المتعاقبين منذ حوالي خمس سنوات هذا القانون الأساسي، "القانون 58" كما تسميه النسويات والنسويون، إلى مجموعة اجراءات وتعقيدات إدارية ومتاهة قضائية... أفرغوه من مضمونه القيمي، ونزعوا كل محتوى توجيهي عن مبادئه الأساسية... أما القضاة وأعوان الأمن، جلهم، فقد حوّلوه إلى مجرد أداة عقابية بلا نجاعة تُذكَر، أداة وظيفتها الرئيسية إشفاء غليل الرأي العام المتعطش للانتقام، "للقصاص" من الجاني في قضايا الرأي العام... أما الوقاية وما تقتضي من طرح للإشكاليات المجتمعية المحرجة، فيُلُفُّها الصمت...
--الآن، ليس لنا سوى مواصلة النضال الميداني... ورفع الأصوات : كفى اغتيالا للنساء والفتيات، كفى اغتيالا جسديا ورمزيا لهن، لكرامتهن وحريتهن وأحلامهن... !