-1-منذ عام بالضبط، يوما بيوم، فجر السبت 11 فيفري 2023، انطلقت حملة الاعتقالات السياسية لعدد من المعارضين في إطار ما سمّي لاحقا "قضية التآمر على أمن الدولة". طالت الاعتقالات يومها كمال اللطيف الذي لا نعرفه ولا يعرفنا، وعبد الحميد الجلاصي والصديق خيّام التركي. ثم وخلال الأسبوعين المواليين وإلى حدود الليلة الفاصلة بين الجمعة 24 فيفري والسبت 25 فيفري 2023، شملت الاعتقالات رضا بلحاج والأصدقاء غازي الشواشي وجوهر بن مبارك وعصام الشابي والصديقة شيماء عيسى والأزهر العكرمي. وصدرت بحقهم جميعا بطاقات إيداع بالسجن بتاريخ 25 فيفري 2023، مع إطلاق سراح الأخيرين، شيماء عيسى والأزهر العكرمي بعد ستة أشهر من الإيداع بالسجن مع منعهما من الظهور في الأماكن العامة.
كانت عمليات الاعتقال القائمة على قانون مكافحة الإرهاب والمتضمّنة لعدة خروقات اجرائية، والتي نفّذتها فرقة مقاومة الإرهاب مشهدية تتضمن استعراضا للقوة، وكانت تهدف على ما يبدو إلى ترويع بقية المعارضات والمعارضين...
أما التهم الموجَّهة للمعتقلين، فتتمحور حول التآمر على أمن الدولة الخارجي بالتخابر مع قوى أجنبية، والداخلي بمحاولة تغيير هيئة الدولة وحمل السكان على مهاجمة بعضهم البعض، أي محاولة القيام بانقلاب. وهي كلها تهم واهية لا أساس لها، حيث إنه بات ثابتا منذ السويعات الأولى للاعتقالات أنّ "الملفات فارغة"، وهو العنوان الذي أعطاه المحامون والمحاميات لهذه القضية التي ينوبون فيها.
-2-دعا أيامها عدد من المعلّقين القضاء إلى ضرورة احترام شروط ومقومات المحاكمة العادلة في هذه القضية، فما كان من حاكم التحقيق المتعهِّد بها إلا أن منع في شهر جوان الماضي التداول فيها إعلاميا.
-3-لن أخوض في التفاصيل القانونية للقضية ولما شابها من خرق بيِّن للقانون، فهي معروفة للقاصي والداني... ولن أدعوَ لاحترام مقومات المحاكمة العادلة، إذ أنه لا وجه للمحاكمة أصلا...
-4-خلال الشهرين الأخيرين، سمعتُ بعض أنصار قيس سعيّد من سياسيين وإعلاميين يتساءلون عن غياب المعارضة عن الساحة السياسية، ويدعونها لإعداد برامجها وتقديمها للشعب عوض التباكي ومحاولة لعب دور الضحية. وقد ذهب في نفس الاتجاه عدد من الإعلاميين السذج المحايدين أو الذين يتظاهرون بالحياد.
فأين المعارضة ؟ ( !!!)
-5-بعد انقلاب 25 جويلية 2021 وضد التيار الجارف حينذاك، ارتفعت أصوات بعض الشخصيات والأحزاب والجمعيات لتندد بما وقع، وتعتبره انقلابا. ثم أخذت دائرة المعارضة تتسع شيئا فشيئا خاصة إثر صدور الأمر الرئاسي عدد 117 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلق باجراءات استثنائية، والذي ألغى في الحقيقة ضمنيا دستور 27 جانفي 2014، ووضع تنظيما مؤقتا للسلط العمومية، تنظيما دكتاتوريا يتسم باحتكار جميع السلط من قِبَل رئيس الدولة. اتسعت دائرة المعارضة سواء الرافضة تماما للانقلاب أو القابلة به والرافضة فقط لانفراد قيس سعيّد بالسلطة، وتحكّمه لوحده بـــ "مسار 25 جويلية".
كانت المعارضة تقوم بنشاطات سياسية وتحركات احتجاجية تنجح مرات وتخيب مرات في استقطاب الجماهير.
بعد عام من الانقلاب وبمناسبة استفتاء 25 جويلية 2022 على دستور قيس سعيّد وحسب أرقام سيڨما كونساي، أصبحت المعارضى تضاهي الموالاة عددا، حيث إنها نجحت في إقناع حوالي 25% إما في مقاطعة الاستفتاء وهي الأغلبية أو في التصويت على مشروع الدستور بـــ "لا" (حوالي 2% )، بينما صوّتت نفس النسبة تقريبا للدستور، والبقية، حوالي 50% من الناخبات والناخبين كانوا عازفين عن المشاركة في الاستفتاء.
ثم وفي الأشهر الموالية، هدأت الأمور قليلا...
مساء السبت 17 ديسمبر 2022 وإثر إعلان هيئة الانتخابات عن نسبة المشاركة في الدور الأول للانتخابات التشريعية والتي تمثلت حينها في 8.8% من مجموع الناخبات والناخبين، ارتفعت أصوات عديد المعارضين من قادة أحزاب ورئيسات ورؤساء جمعيات وشخصيات مستقلة صارخة بانهزام قيس سعيّد نفسه. فانتظمت الندوات الصحفية، وتكثفت اللقاءات الإعلامية، وصدرت البيانات والعرائض... ولكن وبالخصوص، أعلن عديد الشخصيات عن إطلاق مبادرات سياسية بعضها "تحت سقف 25 جويلية" وترمي لإقناع قيس سعيّد بالعدول عن تنظيم الدور الثاني لتلك الانتخابات التشريعية، وبتنظيم حوار وطني يضم الأطراف المؤيِّدة له ؛ أما البعض الآخر للمبادرات، فكان رافضا تماما لما وقع في 25 جويلية 2021، فكان يدعو قيس سعيّد إلى العودة للشرعية الدستورية وإلى تنظيم انتخابات رئاسية.
كان "موسم المبادرات السياسية" بامتياز : مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل وهيئة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ومبادرة ائتلاف صمود ومبادرة لطفي المرايحي ومبادرة غازي الشواشي وغيرها من المبادرات السلمية الديمقراطية الرامية لجمع شتات المعارضة وتوحيد صفوفها، كما كان يقع دائما سواء قبل ثورة 14-جانفي أو بعدها، وكما يقع في جل المجتمعات السياسية الاستبدادية منها أو خاصة الديمقراطية ...
تتالت الاجتماعات العمومية واللقاءات العلنية بين الأطراف المعارضة، نعم اللقاءات كانت علنية، ولم تكن سرية بالمرة، بل أكثر من ذلك : كان قادة المعارضة يخرجون بعد كل لقاء مثمر ولو نسبيا لوسائل الإعلام ليقدِّموا للرأي العام نتائج ذاك اللقاء. لم تكن اللقاءات سرية، بل كانت علنية، لم تكن المعارضة تتآمر على أمن الدولة ولا على النظام، لم تكن تتخابر مع قوى أجنبية... وخلافا لما قاله قيس سعيّد في تلك الأيام، لم تكن تخطط لإدخال اضطرابات على السوق ولا قطع الإمداد عليه، فأولا هي معارضة وطنية غير خائنة ولا عميلة لأيّ طرف، وثانيا ذلك ليس بمقدورها، فالسلاح الوحيد الذي تملكه، إن صحّ الحديث عن سلاح، هو شيء من الحجة وبعض من الكلام وكثير من الصراخ وخاصة الكثير من الشجاعة والحس الديمقراطي المدني...
كما استُأنِفت المسيرات السلمية التي كانت المعارضة تدعو إليها، لم تكن أعداد المشاركات والمشاركين فيها غفيرة...
ولكنّ صبيحة الأحد 14 جانفي 2023 قدّمت مؤشرات واعدة، حيث توافد على شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، في تقديري وتقدير بعض الإعلاميين، حوالي عشرة آلاف شخص جاؤوا احتفاءً بذكرى الثورة واحتجاجا على استبداد النظام بالسلطة، وذلك تلبية لنداءات جل أحزاب المعارضة من أغلبية الطيف السياسي التونسي باستثناء الحزب الدستوري الحر الذي خيّرت زعيمته عبير موسي الاجتماع رفقة مئات من أنصارها بشارع خير الدين باشا بالعاصمة.
صحيح أنّ المعارضة لم تكن إلى حد ذلك اليوم موحَّدة، كانت معارَضات، لكنه كان يوما واعدا نظرا للقدرة على تعبئة الجماهير...
أما قيس سعيّد، فيبدو أنه كان قلقا في تلك الأيام من تقارب المعارضة، إذ أنه كان يكرر في عدة تصريحات سؤالا إنكاريا يتعلق بأسباب تقارب أعداء الأمس...
يوم 29 جانفي 2023 وبمناسبة الدور الثاني للانتخابات التشريعية، تلقى النظام صفعة من الشعب حيث لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 11.66% من الناخبين والناخبات. فتصاعد ضغط المعارضة عبر وسائل الإعلام بالخصوص. فقرر النظام تشديد القبضة عليها، فانطلقت حملة الاعتقالات فجر السبت 11 فيفري 2023... ثم وخلال الأشهر الموالية طالت الاعتقالات جل ممثلي الطيف السياسي في قضايا أخرى، كما صدرت بطاقات جلب ضد عدد من المعارضات والمعارضين المتواجدين خارج البلاد، الصديقة بشرى بلحاج حميدة وكمال الجندوبي، ووقع تتبع عدد من المعارضين والإعلاميين والمحامين والمحاميات من أجل ما لا وجه للتتبع فيه... القائمة طويلة، لكل واحدة وواحد منهم ألف ألف تحية تضامن ومساندة...
-6-أين المعارضة يتساءل اليوم بعض أنصار النظام ؟ سؤال وقح ! المعارضة إما في السجون أو محل تتبع قضائي أو ملاحقة في الخارج...
-7-هذه ملابسات قضية التآمر على أمن الدولة، أشهر القضايا، لأنّ عددها اليوم أصبح يناهز الاثني عشر قضية... فإذا كان غازي الشواشي وخيام التركي وجوهر بن مبارك وعصام الشابي وعبد الحميد الجلاصي ورضا بلحاج وشيماء عيسى والأزهر العكرمي متآمرين، فكلنا متآمرون !