تابع عموم التونسيين على مدار شهور وفي ليال ثلاث أخيرة واحدةً من المعارك السياسية المفتعلة التي شنها الحزب الدستوري الحر بزعامة عبير موسي ضد جمعية فرع اتحاد العلماء المسلمين بتونس المحسوبة على النهضة والمدعومة لاحقا من طرف ائتلاف الكرامة وعدد متزايد من أنصار الهوية.
لقد تلخصت تلك المعركة مع احتدامها الأخير ثم انقشاع غبارها، في معركة لغوية تتمثل في معنى مصطلح "النكاح". فباقتحام مقر الجمعية من طرف أتباع الحزب الفاشي، وضعت زعيمته اليد على وثيقة فقهية تخص مبحث " النكاح"، فخرجت بها على الرأي العام معلنة في خبث ساذج أنها قد عثرت على الدليل القطعي على التوجه الإرهابي لتلك الجمعية العلمية الإسلامية وهو اهتمامها بذلك المبحث المقترن في أذهان السّوقة أمثالها بقضية"جهاد النكاح".
فإلى الجهلة باللغة والقرآن والسنة والفقه، المتضلعين في جهلوت العهر والفحش والفجور، المستغلين لتجهيل الشعب بلغته وثقافته الأصيلة طوال عقود الاستبداد والتغريب، من أجل مزيد استبلاهه واستيلاب وعيه، نقدم هذه التوضيحات المُبكِّتات: - النكاح لغة هو الزواج، وهو معنى أوسع بكثير من المعنى الجنسي لارتباط المرأة بالرجل برباط الزوجية.
أما المعاشرة الجنسية فهي المباشرة أو الملامسة، كما في قوله تعالى: "أو لامستم النساء" (النساء: 43، المائدة: 6) أوالوطء أو الجماع أو التغشّي، كما في قوله تعالى: "فلما تغشاها حملت حملا خفيفا" (الأعراف: 189).. وقد يستعمل لفظ النكاح للدلالة على الوطء لكن في إطارعلاقة الزوجية، لأن الوطء دون زواج شرعي سفاحٌ وليس نكاحا.
وما المعاشرة الجنسية إلا واحدة من ضروب العلاقات المتعددة الناشئة عن نكاح المرأة والرجل، أي زواجهما، وهي أقلها شغلا لأوقاتهما، أمام التعاون على تدعيم أركان عش الزوجية وتربية الأبناء والسعي للمعاش المشترك ومواجهة صروف الدهر والمصاحبة في الحل والترحال وفي السراء والضراء.
وقد ورد معنى النكاح في القرآن الكريم أربع عشرة مرة. مثل قوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام مخاطبا موسى عليه السلام: "إني أريد أن أُنكِحَك إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تُأجرني ثماني حِجَجٍ فإن أتممت عشرا فمن عندك" (القصص:27). فهل يعقل أيها الجاهلون أن يمنح نبي الله شعيب بنته للسفاح؟! إنما المراد أيها الضالون المضلون رغبتُه في تزويج ابنته من موسى عليه السلام.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الوطء أو الجماع الشرعي بلغة متأدبة حَيِيَّة ووظيفية حيويّة حيث قال تعالى: "نساؤكم حرث لكم، فاتوا حرثكم أنى شئتم"(البقرة: 223). أي بأي وضعية تشاؤون في موضع البذر الحيوي والإخصاب، لا غيره، لقوله تعالى: " فاتوهن من حيث أمركم الله" (البقرة: 222) والأمر المقصود هنا لم يأت في آية مخصوصة، وإنما هو أمر فطري، فالفطرة هي الأصل الأعظم للشريعة.
كما أشار القرآن الكريم للمعاشرة الجنسية بلغة رقيقة مهذبة فقال"وإن لامستم النساء ولم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا"(النساء: 43). ففي الملامسةِ ملاطفةٌ وتواشجٌ وتدرّجٌ واستدراجٌ، لا ارتماء بهائم، المنهي عنه في السنة النبوية الشريفة. كما ورد لفظ النكاح في قوله صلى الله عليه وسلم: "تُنكَح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداك"(البخاري: 4802، ومسلم: 1466). أي تُتزوج بدافع من تلك الدوافع الأربعة، أحدها أو بعضها.
فلو كان المقصود بالنكاح الجماعُ، لحُصِر الأمر في الجانب الجمالي، وإنما عُني به الزواج. إن المعركة الحالية بين ميليشيا التجمع المنحل المنتظمة قانونيا (بفعل سوء التقدير السياسي لقيادة النهضة في قضية تحصين الثورة) وكل الأطياف السياسية والميليشياوية الداعمة للحزب الدستوري الحر وفي مقدمتها العلمانيون الاستئصاليون واليسار الوظيفي عميل الفرنكفونية،من جهة، والقوى الوطنية الديمقراطية من جهة ثانية، ليست مجرد معركة سياسية، بل هي معركة أشمل من ذلك، إنها معركة حضارية ومعركة استقلال وطني، تبدأ من الاستقلال اللغوي والتمكين اللغوي بموجب الفصل 39 من الدستور.
انظروا إلى تلك المظاهرة الهمجية لشباب منتسب للحداثة والتقدمية واليسار، التي دنّست منذ أيام تمثال ابن خلدون المنتصب في ساحة الاستقلال بين رمزين أجنبيين: الكنيسة المسيحية التي لم تكن أبدا متجذرة في التاريخ الوطني للبلاد، شمالا، والسفارة الفرنسية قبلة. ذلك التدنيس لم يطل إلا حروف العربية وأبقى على الحروف اللاتينية سالمة من كل أذى وتشويه.
إن طبيعة المعركة واضحة إذا لكل ذي بصيرة. إنها معركة سياسية حضارية شاملة، معركة العلمانية الفرنكوفونية المتصهينة ضد النزوع المتنامي للاستقلال الوطني الحضاري. هذا الاستقلال الذي لا يهم النهضة فقط ولا ائتلاف الكرامة فقط، بل يهم عموم التونسيين المخلصين لهويتهم العربية الإسلامية وهم الأكثرية الساحقة في هذه البلاد.