قبل الكلام المباشر في المسألة المطروحة دعونا نمهد له أولا بتوضيح مسألة نفس- اجتماعية قياسا على قانون نفس- معرفي. في التربية التقليدية كما في التربية الحديثة يكتسب المتعلمون تعلمات، وذلك رغم أن التربية التقليدية ليست تربية بنائية. أنا مثلا أصبحت باحثا ومختصا في التربية البنائية…أضفت إلى سجلّها بعض المفاهيم العلمية في أطروحتي للدكتورا مثل "البنائية المفتوحة" le constructivisme ouvert و"الإيقاظ الابستيمي" l'éveil épistémique رغم أنني قد تلقيت طوال حياتي تربية تقليدية من الابتدائي إلى نهاية التعليم الجامعي.
وأمثالي بعشرات الآلاف في العالم. ما السر في ذلك؟ أي ما السرّ في أن يكتسب أحدنا تعلمات (معارف وكفايات صرفة أو معارف وكفايات منهجية) رغم أن طريقة التعليم التي طبقت معه ليست بنائية، أي لا تعتمد على البناء الذاتي للتعلمات ولا تيسّر مثل هذا البناء؟
السبب بسيط، ولكنه عظيم. وهو أنه مهما كانت طريقة التعليم المطبقة فإن المتعلم لا يتسنى له اكتساب معارف ومهارات وكفايات بصفة حقيقية إلا بقدر ما يستطيع أن يفعل ذلك بنفسه من خلال القدرة الذاتية على المرور من توازن معرفي أدنى إلى توازن معرفي أرقى ومضيف. فأول تأثير حقيقي للتعليم بنائيا كان أو تقليديا يتمثل في إحداث اختلال توازن معرفي لدى المتعلم، ثم تكون الاستجابة إما ببذل الجهد الذاتي لاستعادة التوازن، لكن في مستوى أرقى (من سابقه) ومضيف (لتكوين المتعلم) أو الدخول في حالة حيرة وقلق سلبي. ويحدث كثيرا، خصوصا مع التعليم التقليدي، ألا يقدر المتعلم على الحيرة وألا يختل توازنه المعرفي، لكونه لم يستوعب من الوضعية التعليمية ما يدفعه إلى فقدان توازنه. فيبقى مستقرا في حالة اللانمو الذهني واللافهم السابق.
القدرة الذاتية على المرور إلى توازن جديد أرقى ومضيف(باستيعاب البنيات المعرفية الجديدة عبر سيرورتيْ الملاءمة والتكيف) هو المنفذ الوحيد للتعلم مهما كان نوع التعليم، تقليديا كان أو نشطا وبنائيا.
الأمر نفسه ينطبق في زعمنا على مسألة الوصاية. مع ضرورة التفريق بين وصاية ناعمة وأخرى خشنة أو عنيفة. الوصاية الناعمة تكون بالخطاب العلمي أو الإيديولوجي الموجه للجماعات وللجماهير. والوصاية العنيفة تكون بالقوة المادية وبالقهر. مثلما يمارس ذلك الآباء أو الحكام المتسلطون أو قادة الجماعات الإرهابية.
وكلامنا سيقتصر على النوع الأول من الوصاية، أي على الوصاية التي تمارسها النخب العلمية، والثقافية، والسياسية، والدينية. وهي تتراوح من خطاب التنوير والتثقيف والإشراك في المعلومة والرأي إلى الدمغجة الممنهجة المدعومة بجهاز للتأثير النفسي وعدا ووعيدا شديدا، مرورا بالتنبيه، والنصح، والتبشير، والتحذير. وهنا نجد الأنبياء والحكماء والفلاسفة والعلماء(التحذير من خطر العدوى بالكورونا مثلا) والمثقفين والمصلحين وقادة الرأي في المجتمع المدني والساسة (دعنا من الدجالين والمشعوذين والكذابين فهؤلاء لا يستحقون منا اهتماما).
منذ سنوات ظهرت موجة فكر سياسي جديدة تفند إمكانية الوصاية على الجماهير وتستنكر ذلك استنكارا شديدا. الخلفية الفلسفية لهذا الاتجاه النفس- اجتماعي الفكري يلخصه مفهوم "موت المثقف". وهو موت مضاعف: ابستيمي واجتماعي. ابستيميا لا يمكن للمثقف إدعاء امتلاك الحقيقة ولا تعيين الاتجاه السليم مطلقا للجماهير. فكم من خطابات دبّجت بهذا الوهم في الشرق والغرب وظهر زيفها وفواتها(خطابات مفوتة). الشيوعية والحداثة وجنان الليبيرالية المزعومة و"نهاية العالم" و"الإسلام [الإخواني أو السلفي]هو الحل.. واللجان الشعبية و"الشعب يريد..."...الخ.
أما اجتماعيا، فإن موجة الانتفاضات والثورات الاجتماعية في العالم خلال العقود الأخيرة لم تكن بقيادة لا نخب سياسية ولا طلائع مثقفين. بل الجماهير على اختلاف مشاربها ودرجات تكوينها الفكري والثقافي قد انطلقت معبرة عن غضبها وإرادتها على التغيير وأبدعت أشكال تعبيرها واحتجاجها وتنظيم فعالياتها (تنسيقيات ولجان ثورية).
لكن المشكلة أنه لما نتابع تطور الأحداث بعد ذلك لا نجد في الغالب نتائج عملية في مستوى الانتظارات العامة. ولما تحاول الجماهير أن تصحح اختياراتها عبر اللعبة الديمقراطية تنتقل عفويا من خيار زائف إلى آخر في ضرب من التجريبية الغُفل التي تتحكم بها الرغبات والمخاوف أكثر كما تحكمها معايير موضوعية مستقاة من الفهم العلمي الصحيح للواقع وقواه المتصارعة ورهاناتها.
يبرز هذا كأوضح ما يكون مثلا في التجربة التونسية بعد الثورة. شعب ينجز ثورة على نظام قديم ثم يعيد رموز ذلك النظام إلى سدة الحكم بعد تجربة قصيرة مع ما وافق مزاجه الديني الشعبي أو مزاجه الثوري الساذج(وصف محايد وليس حكما معياريا أو شتيمة) ثم يمعن في خلط الأوراق فيختار فاسدين متمردين على منظومة الجباية وفاشيين من فلول نظام الاستبداد والفساد وشعبويين. لا يمكن أمام هذه الوقائع الصارخة- هذه الوقائع- المهزلة، لمقولة "عصمة الشعب" و"ذكاءه العملي المعيد للتوازن في منظومة الحكم والقوى الاجتماعية" أن تصمد. أي ذكاء جماعي استراتيجي حقيقي أن نعثر عليه في مثل فوضى الاختيارات هذه التي تكشف عن بدائية ونزعة باڥلوڥية في الفكر (اللافكر) وردة الفعل وعن فوضى قيم؟!
ثم أي عمق في الفهم نجده في خروج الآلاف إلى الشارع مزمرين مهللين بالانقلاب على النظام الديمقراطي وعلى دستور الثورة وعلى حرية الفكر والحق في التعدد والاختلاف؟!! ولا ننسى أيضا قاعدة "لا تجتمع أمتي على ضلالة" التي تفيد أنه لا عصمة إلا في الإجماع، وما هذا محل إجماع.
نعود انطلاقا من هنا إلى المقارنة بين مفهوم التعليم التقليدي ومفهوم الوصاية على الجماهير. فكما لا يمكن لتعلم حقيقي أن يحصل إلا إذا حصل ذاتيا، تبعا لتدخل تعليمي تقليدي أو لتدخل تعليمي نشط وبنائي، فكذلك الأمر في هذا النوع الآخر من التعلم الذي هو تعلم جماهيري المتمثل في تغيير الاتجاه النفس-اجتماعي- السياسي.
فتدخل النخبة المفكرة والمثقفة والمدنية والمسيسة للإشارة إلى الجماهير بما تراه خداعا وتمويها وزيفا وبما تراه صوابا وأجدى وأحرى بأن يتبع، قد يكون ضربا من الوصاية على الجماهير، مثلما أسرع الكثيرون منا دقائق فقط بعد اجتماع قيس سعيد بالقيادات الأمنية وإعلانه عن تدابير 25 جويلية الاستثنائية بعباراته المموهة، فكتبوا في وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضي فاضحين لنزعته الانقلابية وتكلموا عبر الڥيديوهات، ثم بإصدار بعض الأحزاب لبيانات، ثم بجمعنا لآلاف الإمضاءات لصالح عريضة منددة بالانقلاب على الدستور ومطالبة بالعودة الفورية إلى الديمقراطية المؤسسية، ثم انتظام عدد قليل من الناشطين في مجموعة "مواطنون ضد الانقلاب" ثم قيادتهم لوقفات إسنادية واحتجاجية في شارع الثورة، ثم توسع الحراك إلى "مبادرة ديمقراطية" ثم التنسيق مع مجموعات وتحالفات حزبية ومدنية أخرى، كل هذا هو ضروب من "الوصاية" التي مثلت ضمنيا عقدا مدنيا للاحتجاج على الانقلاب والتمهيد لإعداد البديل عنه، مع الجماهير المستجيبة طوعا لنداءات مختلف أشكال قيادة الاحتجاج بالإقبال بالآلاف على إمضاء العرائض المناهضة للانقلاب إلى النزول إلى الشارع بعشرات الآلاف في ست مناسبات مرورا بالاعتصام فيه ثم بإضراب الجوع في مقر أحد الأحزاب المناهضة للانقلاب. لننظر أيضا مثلا في الڥيديوهات التي يخاطب من خلالها الرئيس الأسبق د. محمد منصف المرزوقي الشعب يستنهضه على مقاومة الانقلاب وإغلاق قوسه المشين في أقرب الآجال، فيُقبل مآت الآلاف على متابعته والتفاعل معه. والأمر نفسه مع رموز وطنية أخرى.
أصل الآن إلى مفهوم آخر أستقدمه من سجل علم النفس المعرفي وهو مفهوم "منطقة النمو الوشيكة" وهي منطقة تقع بين المستوى الراهن لنمو الفرد والمستوى الموالي المرشح لبلوغه. في هذه المنطقة الوسطى يتدخل الأكثر معرفة وخبرة(المعلم مثلا،أو العالم أو المفكر) فيستفز فكر المتعلم بمثيرات- علامات stimuli-signes، ليفكر بنفسه كيف عليه أن يمر إلى منطقة النمو (نمو الفهم والوعي الاجتماعي والسياسي في قضية الحال) zone proximale de développement (Vygotsky)
الموالية ليغير ما بنفسه(لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). في مستوى هذه المنطقة الوسطى يجب أن يتدخل خطاب المثقف الآن ليساعد على تشكل وعي مواطني يؤلف بين وعي سياسي (بمصائب الاستبداد وتخريب الدولة وحرق الدستور) وآخر اجتماعي(تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعاناة الاجتماعية تبعا للخيارات الانتحارية التخريبية للانقلاب بعد التلكؤ الطويل في فتح الملف الاقتصادي الاجتماعي من قبل منظومة الحكم قبل 25 جويلية 2021).
تَشكُّل هذا الوعي الاجتماعي السياسي والعمل على تسريع تشكُّله بتيسير ومساعدة من الطلائع المثقفة الديمقراطية هو الشرط والمقدمة الضرورية لحراك مواطني تصحيحي حقيقي يتجاوز الفشل(قبل25 جويلية) والفشل في معالجة الفشل معا(منذ 25 جويلية) تجاوزا محققا للشرط السياسي المؤسسي الديمقراطي لتحقيق المطلب التنموي الاجتماعي، أي مختلفا عن مجرد "ثورة جياع"، وإلا بقي الحراك المناهض للانقلاب حراك نخب برجوازية ليبيرالية محدود التأثير عاجزا عن قلب المعادلة لصالح الثورة والدستور والاستحقاق الاجتماعي والديمقراطي، وبقي المستقبل القريب مفتوحا على المجهول.