لقد اطلعت على آلاف الصفحات مقلبا نظري في أزمة التعليم بالعالم العربي. وهي بالمناسبة أزمة تكاد لا تلاحظ في التعليم الفلسطيني الذي يقدم في كثير من الأحيان دروسه للأطفال في العراء. وما انتهى إليه نظري، أنه إلى جانب عدّة عوامل مهمة جدا في هذه الأزمة، فإن عاملا منها يمكن أن يكون عاملا حاسما، حتى وإن كانت له أسبابه التي يجب معالجتها.
إنها معضلة اللغة: هنالك ضعف فادح في اكتساب اللغات، سواء تعلق الأمر باللغة الأم أو باللغات الأجنبية.
وهذا الضعف لا يعود بطبيعة الحال إلى تراجع المستوى الذهني للأطفال والشباب. إنه يعود بمعنى محدد إلى "تراجع المستوى الذهني للكهول". وأقصد بذلك أمرين: أولا، ضعف الملكة اللغوية لدى أعداد متزايدة من المدرّسين، وهنا نقع في دور، أي في حلقة مفرغة، وثانيا، وهذا هو الأهم في نظري هو تغير نظرة اللغويين (الألسنيين) للغة. ومن هنا يأتي تغير مكانة اللغة في المشهد المعرفي التعليمي والأدبي، باتجاه تدني منزلتها الأدبية. لقد كانت اللغة العالمة عبر العصور هدفا تعليميا في ذاته. أي نتعلم اللغة حتى نكون متملكين لها ومتفننين في استخدامها والإبداع بها أشكال شتى من التعبير اللغوي، نثرا وشعرا ومقامات وأراجيز وأمثالا وحكما وأخبارا وقصصا وروايات. أي أدبا بصفة عامة. فالمتخرّج اللغوي هو في النهاية أديب وكاتب أو شاعر. أما في اللسانيات الحديثة فقد حددت للغة وظيفة أخرى قيل إنها الوظيفة الأساسية، وهي التواصل. وهنا وقع البيداغوجيون وواضعو المناهج التعليمية في فخ، فخ الألسنيين: جعل الوظيفة التواصلية للغة هي الهدف أو الكفاية الأساسية المستهدفة من التعليم اللغوي: المهم أن يصل المتعلم في النهاية إلى إيصال المعلومة والفكرة إلى غيره، ولو بما يشبه الجملة أو بما يشبه الكلمة والعبارة. طبعا الهدف المدوّن رسميا في المناهج التعليمية لا يصاغ على هذا النحو، لكن هذا هو المنهاج الخفي أو الضمني المعمول به في تقييم مكتسبات التلميذ في شتى المواد التي تتوسّل اللغة للتعبير عن مضامينها.
ومما زاد في الطين بلة هو التقنية وانتشار التعبير بالصورة وبالأيقونة والرموز. التقنيات التواصلية الرقمية الحالية كما يستخدمها الأطفال والشباب تبدو وسيلة تدمير منهجي للغة. ومكمن الخطورة في استبدال اللغة "الأدبية" (أي الدقيقة والمكتملة لغويا، حتى في سياق التعليم العلمي) هو في ضياع التناسب المثري بين الدال والمدلول الذي هو في "اللغة القديمة" أي الأصيلة، الأدبية. لوجود مساحة شاسعة من الدلالات المحتملة للدال، تسمح بتنشيط الذهن خيالا وتفكيرا وتأويلا وإبداعا. بينما في "اللغة الجديدة"، اللغة البراغماتية "الأمريكية" الفاستفودية، يتسطح المدلول ويفقد عمقه وينحصر في دال مباشر واحد. وهذا مجال بودي لو يباشر البحث فيه الألسنيون المستقلون، أي غير المتأثرين مذهبيا بمدارس ألسنية بعينها. لقائل أن يقول، إن ما أتعرض له هنا بالنقد هو على العكس مما أذهب إليه تماما دليل على دقة العقل المعاصر، العقل التكنولوجي الرقمي. قد يكون هذا صحيحا، ولكنها دقة بالمعنى الضيق المضيّق، لأنها وإن كانت تصلح في مجال محدد ما في كل مرة، فإن تصبح عائقا تعليميا، عن تعلم معان ومفاهيم جديدة معبر عنها من نفس مادة الحقل المدلولي الاشتقاقي (لا الدلالي) الذي وقع استنزافه بالكامل وإلى الأبد في استخدام تقني أصليّ أوّل، بالمعنى الواسع للتقنية بما في ذلك فن التواصل الموضعي (الجهوي بلغة الابستمولوجيا الباشلاردية) الناجع.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، في "اللغة التواصلية" الشبابية المُبتَسرة تتم عملية تحطيم وتفكيك مدمّرة لنحو اللغة وصرفها. ولهذا الأمر تداعياته الكارثية على عملية التواصل نفسها في سياقات أخرى غير سياق التواصل المنفعي الأول، الذي تم فيه تدمير البني النحوية والأشكال والارتباطات الصرفيّة. هذا أيضا وجه آخر من وجوه التشويه المعرفي الذهني والقيمي أيضا الذي أصبح الشباب ضحية له نظرا للتطبيق الفوري والساذج ولو على نحو غير واع لوجهة نظر الألسنية الحديثة حول الوظيفة الأساسية للغة التي هي التواصل (البراغماتي خاصة)، وهو أيضا مجال جديد من مجالات البحث الألسني-التعليمي (الديداكتيكي اللغوي) الذي يمكن أن يلتفت إليه الباحثون في هذا المجال.
وبالمحصّلة، أنا أدعو إلى العودة إلى تعليم اللغة وتعلمها بما هي لغة وكفى. أي نثر وشعر وأدب جميل، مع التشبع بالنماذج الراقية للأدب بشتى أجناسه، وحفظ الأشعار والأمثال والأقوال الحكيمة، والمقاطع التعبيرية العميقة البليغة والجميلة، ومحاكاتها واستخدامها وتطبيقها أولا ثم إبداع أغيارها تاليا.
صحيح أيضا أنه من المهم الاعتناء بظهور السياقات المناسبة والوضعيات الدالة لتعليم اللغة وتعلمها، ولكن لا ننسى أيضا أن ممارسة اللغة في نفسها ممارسة فنية ذوقية تطلب لذاتها. فكل المعلمين يذكرون أنهم لما يدعون التلاميذ، على سبيل المثال، إلى قراءة نص من النصوص نثرا كان أم شعرا، فإنهم يجدونهم يتنافسون في افتكاك هذه المتعة من بعضهم البعض.
ولذلك أعود إلى سرّ تفوق التعليم لدى إخواننا الفلسطينيين. إن الأطفال الفلسطينين يتعلمون ويتكلمون لغة عربية فصيحة تُخجل أغلب الراشدين منا عند سماعنا لها، لما بين فصاحتها وركاكة لغتنا وأسلوبنا من بون شاسع، ولذلك ليس عجبا أن يكون عدد من أبرز العلماء في العالم العربي، بل في العالم قاطبة هم من الفلسطينيين. فاللغة ليس مجرّد كلام، بل هي منظومة تفكير ونحو هو بنى منطقية، وهي منظومة قيم ومشاعر انتماء أو انفتاح ومصدر دافعية للعطاء والإبداع.
هذه خطوة أولى في نظري، وباب من أبواب إصلاح التعليم في بلادنا، يفتح على عدة أبواب أخرى معرفية ونفسية وجدانية وروحية وقيمية.