أنا قد أفهم هواجس قيس سعيد التي يعبر عنها بخصوص الفساد ولوبياته، بما هو مواطن منشغل بمصلحة بلاده(وأترك جانبا كل الروايات والفرضيات عن انخراطه في أجندات إقليمية غامضة)، وهذا لا نختلف فيه: المنظومة السياسية فاسدة ومضروبة بفيروس لوبيات الفساد التجمعية وما تفرّخ منها وتفرع عنها(نداء تونس، تحيا تونس،قلب تونس، طلبة التجمع، عائلات ورؤوس أموال متنفذة وفاسدة) ونهضة راشد الغنوشي ومكتبه التنفيذي منذ أن كان لطفي زيتون مستشاره السياسي، متواطئة مع هذا الفساد بالتحالف معه وغض الطرف عنه، طلبا لنجاتها بحسب تقديرات مغلوطة ونصائح مسمومة، من الداخل والخارج.
اختلافي وخلافي مع قيس سعيد لا يبدأ مع مرحلة العلاج من موقعه المتقدم في السلطة، بل يبدأ قبل ذلك في تشخيص الداء الذي يحدد طبيعة الدواء.
هو يزعم أن الداء يكمن في الديمقراطية البرلمانية وفي الدستور. بينما يمكن بنفس هذا النظام السياسي وبنفس الدستور وبنفس القوانين الجاري بها العمل تحقيق نتائج مختلفة تماما، شرط تغيير القانون الانتخابي، بما يحول دون وصول الشركات السياسية والإعلامية المالية الفاسدة إلى البرلمان وبما يحول دون تذرر وتشظي تركيبته. القانون الانتخابي المعتمد إلى حد هذه اللحظة هو نفس القانون الذي وضع لانتخاب المجلس التأسيسي وكتابة الدستور بفلسفة إجماعية(إقرار مشتركات عريضة)، وهذا لا يصلح لتصعيد قوى سياسية للحكم بحسب برامج تَعِدُ بها الناخبين وتُحاسب على أساسها.
أيضا، الدستور قد ينقح جزئيا لتفادي بعض الثغرات التي كشفت عنها الممارسة، بالآليات التي حددها الدستور نفسه بعد تغيير القانون الانتخابي.
إحداث المحكمة الدستورية من شأنه كذلك أن يمنع تهلهل مكنة منظومة الحكم ويخفض من صخبها(تڨربيعها، بحكم انحلال رواشكها، براغيها) بقدر كبير.
إصلاح القضاء ليكون فعلا قضاء مستقلا بصفة منهجية، هو أيضا من الضمانات الكبرى للقضاء على الفساد.
ألخص: أنا، وأغلب المعارضين للانقلاب، كما أتصور، نوافق على ونسلم بأمر بديهي: فشل منظومة الحكم(بما في ذلك الرئاسة التي ساهمت في تأزيم الوضع بشكل منهجي) ووجوب وضع حد لهذا الفساد الكبير الذي ظهر في أرض تونس وبحرها(الموانئ: تهريب، احتكار، رشوة، سابوتاجات...الخ) وجوِّها(تونس الجوية).
أي نوافق على هذه المعاينة constat، ونختلف مع قيس سعيد في تفسير هذا الوضع وكيفية معالجته. هو ألقى بالرضيع مع ماء غسيله المتسخ، ونحن نقول لا: الرضيع هو ابننا العزيز الدستور وبنتنا الغالية الديمقراطية، أما الماء المتسخ، أعمال فاسدة وأشخاص فاسدين، فنلق بهم في المزبلة التي يُعدّها لهم قضاء مستقل، لا تقديرات ورغبات قيس سعيد ومساعديه. ولنُعِد ترتيب المشهد بقانون انتخابي جديد، وقضاء مستقل، وحوكمة رشيدة، وإعلام عمومي محايد، وإعلام خاص مراقب قانونيا، ومحكمة دستورية، ووضع أسس مشروع وطني للبناء الديمقراطي السليم ولإنقاذ الاقتصاد والتخفيف من معاناة الشعب الاجتماعية والصحية وغيرها، ريثما تتهيأ الظروف للوصول إلى رفاهية اجتماعية تليق بكرامة المواطنين.