لقد أصبح المعارضون لقيس سعيد يتزايدون يوما بعد يوم، فيما يمعن من جهته في تنفيذ مخططه بالانقلاب على الشرعية الدستورية ويتخذ التدابير تلوى التدابير التعسفية لضمان تحقيق مراده دون عرقلة ولا اعتراض، أي من أجل تزييف الإرادة الشعبية وفرض ما سماه بالجمهورية الجديدة ذات الدستور الجديد والنظام السياسي الجديد. في المقابل لا يبدو أن المعارضين له يقتربون فعليا من لحظة الحسم رغم تكاثرهم وتنوع مواقعهم وألوانهم. ففيهم المتحزبون والبرلمانيون والناشطون المدنيون والمحامون والقضاة والنقابيون. فما هو السبب الذي جعلهم لا يتحدون من أجل إسقاط الانقلاب والعودة للشرعية الدستورية عبر قانون انتخابي جديد وانتخابات تشريعية ورئاسية جديدة؟
يعود ذلك لسببين متعالقين:
1- أن فريقا منهم ليس ضد 25 جويلية في الأصل رغم رفض من دعي منهم للمشاركة في الحوار الوطني، أو في مداولات اللجنة الاقتصادية والاجتماعية التي شكلها قيس سعيد، الاستجابة لهذه الدعوة وأبرز هؤلاء اتحاد الشغل. بينما تتشكل جبهة الخلاص الوطني برئاسة نجيب الشابي من عشر مكونات رافضة جميعها للانقلاب.
2- أن في جبهة الخلاص الوطني خصم سياسي وإيديولوجي كبير لأغلب بقية الغاضبين من قيس سعيد أو عليه. وهو حزب حركة النهضة.
وفي هذا الأمر تعقيدات وتفصيلات كثيرة، من بينها أن حزب الثورة المضادة الممول من الإمارات الذي تترأسه عبير موسي والذي كان من أبرز المتسببين في ترذيل الحياة السياسية والبرلمانية ومن بين أبرز الممهدين للانقلاب لا يمكن أن يكونوا ضمن جبهة الخلاص بحكم طبيعة الأشياء ومنطقها.
ومن بين تعقيدات هذا العنصر أيضا تحكم قيادات يسارية وقومجية استئصالية في الهياكل العليا للاتحاد.
أما الحالة الأكثر غرابة فهي التي تلخصها وضعية وجود الأخوين الشابي(نجيب وعصام) في تحالفين سياسيين متدابرين. أعني جبهة الخلاص بقيادة الاشتراكي نجيب الشابي وتحالف الأحزاب الاجتماعية بقيادة الشيوعي حمه الهمامي. فطوال العشرة الأشهر التالية على الانقلاب لم يشارك حمه الهمامي ولا في وقفة احتجاجية واحدة ضد الانقلاب جنبا إلى جنب مع النهضة بينما قبل بذلك مجموعة مواطنون ضد الانقلاب وحراك تونس الإرادة وحزب أمل رغم اعتراضهم المزدوج على (24 و25) تسليما منهم بالالتقاء تحت سقف الشرعية الدستورية مع الحفاظ على حق الاختلاف والتنافس تحت السقوف الديمقراطية كلما وجدت.
وتوجد حالتان أخريان مختلفتان في تعقيد التشتت في مواجهة الانقلاب. أولهما الحالة القطاعية التي تمثل حالة مقاومة جنينية للانقلاب مثلما هو الحال لدى النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين أو جمعية القضاة التونسيين. وحالة أخرى لا تدخل بتاتا في خانة مقاومة الانقلاب، رغم إعلان أصحابها مقاطعة "الحوار الوطني" وهي تخص ما يسمى ب"ائتلاف الصمود" وهو صمود في الحقيقة في مواجهة المناهضين للانقلاب وليس في مواجهة الانقلاب، ويتضح الحال جليا عندما نعلم أن من بين مؤسسيه يوجد كل من العميد الانقلابي الصادق بلعيد والانقلابي أمين محفوظ اللذان هما الان من بين أبرز المشاركين في الحوار الوطني المزيف القائم تحت عنوان اجتماعات اللجنة الاقتصادية والاجتماعية.
ما من شك أن قيس سعيد يعيش الان عزلة كبيرة مكشوفة فما بقي معه إلا ثلة قليلة من الانتهازيين وعديمي الكفاءة وفاقدي المصداقية، مع عصابات حشدية شعبوية فاشلة أطلق لها العنان للهجوم والتهجم على معارضي قيس سعيد، كما شهدت بذلك اجتماعات جبهة الخلاص الأخيرة في الجنوب الغربي للبلاد، ولكن هذه العزلة التالية للفشل الذريع للاستشارة الوطنية لا تمثل(تمثلان) إلى جانب الوضع الاجتماعي والاقتصادي الكارثي الذي يفتح على شبح المجاعة الجماعية، إلا الوجه السالب لاندحار الانقلاب، بقي وجهه الموجب الذي يتمثل في استغلال هذا الوضع الضعيف للمنقلب المستقوي فقط بالقوة الصلبة للدولة في مواجهة الشعب، أي القوة المدنية والشعبية المتوحدة ضده لإسقاطه.
لقد صرح نجيب الشابي في اجتماع توزر بالأمس عن التوجه إلى عقد مؤتمر وطني للإنقاذ تنبثق عنه حكومة إنقاذ (وفي رواية: بالتنسيق مع الاتحاد والقضاة). لكن يطرح هنا سؤالان: أولهما كيف سيتم التنسيق مع الاتحاد وهو الذي سبق له أن هاجم جبهة الخلاص ورئيسها الشابي؟ أم أن الوضع قد تغير الان بعد أن أصبحت قيادات الاتحاد في مرمى تهديدات نظام الانقلاب، ويوشك ان يحدث لها ما حدث مع قيادة اتحاد الفلاحين؟
وثانيهما: كيف ستنبثق حكومة إنقاذ في ظل استمرار حكومة الانقلاب؟ هل يمكن ووجود حكومتين متزامنتين؟ أم أن المقصود هو انتظار حصول ضغط قوي على قيس سعيد للقبول بحكومة الإنقاذ نظرا للحالة الاقتصادية والاجتماعية الخطرة جدا التي وصلت إليها البلاد والتي تسرع نحو التفاقم في قادم الأيام؟ ونتساءل هنا من أين سيأتي هذا الضغط أمن مؤسسة الجيش أم من الخارج، أم منهما معا، فيسمح الجيش بإعادة فتح البرلمان الذي قد يعقد جلسة للمصادقة على الحكومة التي يتم الاتفاق عليها في "مؤتمر الإنقاذ الوطني"؟ أخيرا ما معنى الإنقاذ الوطني وما هي حدوده؟ هل هو إنقاذ شامل وحقيقي ديمقراطي واقتصادي واجتماعي، أم إنقاذ شكلي للشكل الديمقراطي مع تأبيد لحالة التبعية للدوائر الاقتصادية العالمية؟ أم أنه ليس بوسعنا طرح أسئلة"الرفاهة الديمقراطية والسيادية" بما أن خطة الثورة المضادة توشك أن تنجح بالكامل في إخماد الروح الثورية؟