لماذا يتابع الرأي العام التونسي أحداث الاعتقالات الجارية حاليا في صفوف المعارضة لنظام قيس سعيد بما يشبه اللامبالاة؟ ما هي المعطيات السوسيو- سياسية والدولية التي تبدو في الوقت الحالي في صالح النظام السياسي وتمنحه نوعا من الغطاء "الشعبي" لحملة الاعتقالات هذه؟ وإلى أي حد يمكن أن ينتفع النظام بخصوصيات الظرف السوسيو- سياسي الحالي للمضي قدما في إخراس أصوات المعارضين له وتحييدهم في ظرف هو أحوج ما يكون بحاجة فيه إلى تنفيذ "الإصلاحات الاقتصادية" المشترطة من صندوق النقد الدولي" إلى "الهدوء"، لا بل إلى "الموات السياسي المناوئ"؟
أولا- نقاط ظرفية في صالح نظام قيس سعيد:
المقدمة الكبرى لتدخلات قيس سعيد السياسية على الساحة الوطنية هي مقاومة الفساد وتخريب الدولة من الداخل تفسيرا للفشل الواضح في أداء منظومة حكم 2011- 2020، خاصة خلال الفترة 2014- 2020.
1- ولذا فإن النقطة الأولى التي تغطي على الخروقات القانونية والحقوقية الواضحة التي يرتكبها النظام في الوقت الحالي هي رفعه لشعار مقاومة الفساد ومطاردة الفاسدين والمتسترين عليهم. وقد بادر النظام باعتقال الوجه الرمز للفساد والتآمر على الدولة من داخل أجهزتها، في مخيلة التونسيين (ربما عن حق ولو إلى حد ما) وهو رجل الأعمال كمال لطيف.
حجم هذا الصيد الثمين الذي عجزت شباك حكومة علي العريض سابقا، لما كان نور الدين البحيري وزيرا معتمدا لديه، عن الإيقاع به، يبدو كافيا لدى عدد هام من التونسيين للتغطية على اعتقال عدد من الوجوه السياسية القيادية البارزة التي لا علاقة لها بالفساد لا من قريب ولا من بعيد أمثال عبد الحميد الجلاصي القيادي السابق في النهضة والناشط السياسي المستقل حاليا، وعصام الشابي رئيس الحزب الجمهوري، وغازي الشواشي الأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي، وشيماء عيسى القيادية بجبهة الخلاص.
هؤلاء ومعهم السيد خيام التركي رجل الأعمال القريب من حزب التكتل ورضا بلحاج القيادي بجبهة الخلاص والقيادي في حزب أمل الذي يترأسه نجيب الشابي وغيرهم لا يخفون رغبتهم في العمل على وضع حد لانقلاب 25 جويلية ولتوحيد صفوف الديمقراطيين حول هذه المهمة، مع كون السيد عبد الحميد الجلاصي لا يبدو أنه من المشاركين في الاجتماعات التي نظمها خيام التركي لهذا الغرض، ولكنه لا يخفي مناهضته القوية لنظام الانقلاب.
2- اقتران التنظيمات الحزبية في الوعي الشعبي بالوعود الزائفة في التنمية وبالفشل العام في إدارة شؤون البلاد. ولذا فإن إزاحتها من المشهد مهما كانت الطرق المتبعة في ذلك يمنح هذا الوعي الشعبي التلقائي أملا في فسح المجال للجديد المفيد. وحتى إن أبطأ هذا الجديد في الإتيان بالمفيد، وحتى إن فشل حتى في المحافظة على المستوى المعيشي السابق عليه، فإنه "معذور" لديه، بحكم "الفساد والخراب الكبير" الذي ورثه هذا النظام عمن سبقه مع ظرف اقتصادي عالمي غير موات، وظرف مناخي قاس لا يد للنظام فيه.
3- الكره الشديد لحركة النهضة خارج دائرة المنتمين إليها والمتعاطفين معها والمؤمنين جذريا بالديمقراطية. وهو كره يتكثف إزاء زعيم النهضاويين راشد الغنوشي. وهذا الكره من صنفين:
أ- كره شعبي عام ناتج عن الشعور بالخذلان، ممن حظوا بتفويض شعبي واسع في انتخابات المجلس التأسيسي ثم بتفويض هام أقل من سابقه في انتخابات 2014، فلم يبرهنوا على كونهم "يخافون الله حقا" ولا أنهم على درجة كافية من الشجاعة السياسية لتفكيك المنظومة القديمة والدولة العميقة وأخطبوط الفساد، فخاب ظن المزاج الشعبي فيهم وتحولت الثقة الممنوحة لهم إلى انعدام ثقة وكراهية شديدة. ولذا فإن كسر كتف أو عضد نائب الشعب السابق عن حركة النهضة وأحد أبرز مهندسي سياساتها نور الدين البحيري، لم يُثر شفقة ولا تعاطف أو استنكار عامة الناس من الشعب، رغم خطورته الحقوقية الإنسانية وخرقه الصارخ للقانون. وبقي التعاطف والاستنكار محصورا في دائرة الديمقراطيين والحقوقيين الجذريين.
ب- كره إيديولوجي مستفحل يبلغ درجة الضغينة والحقد الاستئصالي لدى ثلاثة أنواع من الخصوم: التجمعيون الفاشيون، والقومجيون العسكرتيون، واليساريون المتطرفون. وهؤلاء جميعا لم تمسهم آلة القمع الانقلابي الشعبوي التي تستثمر بدهاء في التناقضات التي تشق صفوف المعارضة.
4- موقف اتحاد الشغل المؤيد لحدث 25 جويلية واكتفاؤه بالاعتراض على أسلوب التطبيق والموقف الضعيف له بسبب تورط عدد من قياداته في الفساد. هذا الموقف حرم الديمقراطيين من مساند وطني كبير ومؤثر.
5- مغادرة عشرات الآلاف من الشباب المحبط، الممثل لقوة وطاقة احتجاج قوية، للبلاد عبر الهجرة السرية.
6- استمرار تشتت قوى المعارضة الديمقراطية، مع أن من هم ديمقراطيون حقا قد غادروا صفوف التحالف الخماسي ومد يدهم للتعاون مع جبهة الخلاص (مثل عصام الشابي وغازي الشواشي).
7- وبطبيعة الحال وقوف الدولة العميقة في الأجهزة الأمنية التي شكلها بن علي ولم تتحول إلا جزئيا جدا إلى أمن جمهوري، إلى جانب الانقلاب بحكم الالتقاء في المصالح.
8- رفع القوى الخارجية التي عبرت سابقا عن "قلقها" من المسار الذي اتحذه حدث 25 جويلية الذي لم تصفه أبدا بالانقلاب، يدها عن "الأزمة السياسية الداخلية التونسية" واكتفائها بما حصل من تطبيق شكلاني لدروس (الديمقراطية الغربية) من انتخابات تشريعية وتشكيل برلمان جديد، مع توصية خفيفة منافقة بالانفتاح على المعارضة ومحاورتها.
ثانيا- حظوظ نظام الانقلاب في الاستمرار والاستقرار:
نأتي الآن إلى السؤال: إلى أي حد سينجح نظام الانقلاب في إتمام مشروعه؟
- على المدى القريب: الظروف الدولية (الحرب الأوكرانية- الروسية- أزمة الطاقة والغذاء والمياه والمناخ) والمزاج الشعبي السائد اللامبالي بالاستحقاق الديمقراطي ومغادرة أكثر الشباب إحباطا البلاد، واستمرار تشتت المعارضة الديمقراطية، واستخدام القوة الصلبة للدولة، كل هذا سيجعل الطريق مفتوحة أمام النظام لمتابعة سياساته الاجتماعية اللاشعبية وإمعانه في تكريس الحكم الفردي المطلق.
- أما على مدى أبعد، فإنه من المستحيل أن يستمر الوضع بمعادلاته السياسية والاجتماعية الحاضرة، حيث ستضيق دائرة المناورة السياسية على عنق النظام شيئا فشيئا بحكم الفشل الاجتماعي الذي سيتفاقم، ولن يحله قرض البنك الدولي المنتظر طويلا، وبحكم الأخطاء التي ستتراكم وينتج عنها انسداد كامل لأفق العمل في الدولة والتواصل مع المجتمع. ولذا لا مفر من انفجار الوضع في يوم من الأيام، مهما أحكم النظام قبضته الأمنية على معارضيه، فهذا قانون تاريخي سوسيولوجي- سياسي انطبق على أعتى الدكتاتوريات في العالم ولن يكون هذا النظام الشعبوي استثناء منه.