شهدنا جميعا ظهر الثورة صعود نوعين من الأئمة على منابر الجوامع:
- السلفيون بأنواعهم وأبرزهم السلفية العلمية والسلفية العنيفة (التي تنسب باطلا للجهاد الشرعي.(
- النهضويون.
في العام الأول والثاني من حكم الترويكا لا نكاد نميز بخصوص "الثورة السورية" بين موقف السلفيين والنهضويين، فكلاهما كان يدعو لنصرة الثورة المسلحة ضد نظام بشار الأسد. وكانت دعوة الشباب للالتحاق بصفوف "الجهاد" بسوريا تتم جهارا نهارا ("بهارا") عقب صلوات الجمعة التي يؤمها هذا النوع أو الآخر من الأئمة. وكان الشباب السلفي "الجهادي" يوزع كتيبات من أدبياته ويقدم نفسه، عقب صلوات الجمعة "النارية"، بكل وضوح "وحرية" و"ديمقراطية"، على أنه سلفي جهادي" دون خوف أو وجل. ولقد كنا نذكر جميعا تلك الخيمات والرايات السوداء التي كان ينصبها أتباع "أنصار الشريعة" الذي انكشفت تاليا "جهاديته الفعلية" بعد أن كان "جهاديا بالقوة فحسب" بحسب تقييم قيادة النهضة المغلوط في البداية، بطبيعة الحال، لأن ذلك التنظيم كان يعدّ العدّة في ذلك الوقت للقتال والعنف المسلح ويدرب المزيد من الشباب عليه.
وبالرغم من أن أئمة يحسبون على النهضة كانوا يدعون لصالح انتصار "المجاهدين" في سوريا، إلا أننا لم نر شبابا نهضويا عضويا ولم نسمع عن شباب نهضوي ملتزم التحق بصفوف المعارضة المسلحة بسوريا.
لهذا يجوز بل من المؤكد أنه في ذلك السياق "الثوري" وذلك الحماس لـ"حرية الشعوب العربية" كان هنالك أئمة محسوبون على النهضة ذات التوجه الإخواني (قبل الاتجاه رويدا رويدا نحو خيار التونسة الذي قد يحسم فيه بوضوح في المؤتمر العاشر القادم لحركة النهضة) متحمسون لانتصار "الثورة السورية المسلحة" التي يشكل الإخوان في سوريا جزءا رئيسيا منها. إن فصائل القتال المدعومة من قِبَل الإخوان قد شملت : لواء التوحيد، المدعوم من قِبَل قادة الإخوان في حلب، ولا سيما البيانوني ورمضان؛ وبعض العناصر في كتائب الفاروق القوية؛ وهيئة حماية المدنيين، التي تعتبر الجناح العسكري للإخوان بقيادة الحكيم ؛ وأنصار الإسلام، ومقرها في دمشق والمناطق الريفية المحيطة بها. وتمتلك جماعة الإخوان المسلمين كتائب في جميع أنحاء البلاد والتي عادة ما تتضمن أسماؤها كلمة "درع"، مثل درع الفرات، درع العاصمة، ودرع المسجد الأقصى .
وبالعودة إلى الشأن التونسي، وقعت كما هو معلوم تلك الأحداث المثيرة التي تضمنت تشكّل روابط حماية الثورة، ومقتل شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي بشكل غامض، وتنظيم اعتصام الروز بالفاكيه (الفاكهة) والكثير الكثير من الحرق والنهب والتخريب والاعتصامات العشوائية، وتعليق أعمال المجلس التأسيسي من قبل رئيسه مصطفى بن جعفر، ودخول "رباعي الحوار الوطني" على الخط قبل ذلك، وفي النهاية تخلي الترويكا عن الحكومة، ففترة حكومة التكنوقراط، ثم الانتخابات التشريعية فالرئاسية الأولى والثانية، فتشكل الرباعي الحاكم الذي يقوده النداء بالاشتراك مع النهضة. كل هذا، كان له تأثير من دون شك في مواقف واختيارات النهضة السياسية، باتجاه إبراز بعض مظاهر التونسة والإلحاح على خيار السلم الأهلي (لأن أدبيات النهضة التأسيسية تنص بوضوح على نبذ العنف، الذي خرقته روابط حماية الثورة في بعض الحالات، بالإفساد العنيف لاجتماعات الخصوم السياسيين، مثل اجتماعات الجمهوري وحركة وفاء ونداء تونس، حتى وإن كان هذا العنف بعيدا كل البعد في قوته ومداه عن العنف الممارس في سوريا وليبيا ولا يقارن به أبدا) وتوجه الشيخ راشد الغنوشي إلى مصر لينصح الإخوان هناك وفي مقدمتهم الرئيس مرسي باختيار نهج الحوار والتنازل عن بعض المكاسب من أجل إنقاذ السلم الأهلي، وذلك قبيل حدوث الكارثة التي حصلت.
في نهاية المطاف، حصل تحول كبير في خطاب النهضة السياسي وفي اختياراتها السياسية، باتجاه التهدئة والحوار والتعايش والتوافق وتقديم تنازلات مؤلمة، لا لأن خصومها كانوا ضرورة على حق وهي قد عادت إلى جادة الصواب، بل، خاصة، لأنها كانت غير حاسبة كما ينبغي في البداية لمخاطر تسلم السلطة في مرحلة انتقالية ووراثة تقليد بورقيبي يراد العودة إليه من بعد القوسين الذين فتحهما نظام بن علي لمدة ما يقارب الربع قرن. دون أن نقلل أيضا من خطورة إيغال النهضة في سنوات الترويكا لتوجهاتها "الإخوانية" الدولية السافرة، على حساب ما عرفت به السياسة الخارجية التونسية من انخراط في التقليد الديبلوماسي لعدم الانحياز، ودون أن نقلل من خطورة عدم استعدادها "فنيا" لتسلم السلطة وقيادة البلاد على رأس الترويكا، بحكم سوء التقدير، ومن خطورة بعض الغرور الذي انتاب المزاج العام داخلها في تلك الفترة.
هذا التحول العام الذي نلحظه الآن في مزاج قيادة النهضة وتفكيرها وطرق تدبيرها، كان له انعكاس من دون شك على الخطاب المسجدي وعلى محاور اهتمام الأئمة المحسوبين عليها في الجوامع. وبالتالي، لا يعقل اليوم أن نحاسب أئمة كانوا متبنين صراحة لما يقال بصوت خافت من قبل السياسيين في النهضة، إذا ما استثنينا الأصوات المرتفعة لبعض قيادييها المصنفين في فئة الدعاة أكثر منهم سياسيين، بينما وقعت مصالحة في البلاد أصبحت بموجبها النهضة شريكة لنداء تونس بشقيه الدستوري واليساري (مع تفاوت في درجة التفاهم) وفي وقت تحصلت فيه تونس على جائزة نوبل للسلام، بحكم نجاح الحوار الوطني فيها وتجنب البلاد للحرب الأهلية، حتى وإن كانت حربا مصطنعة، وكل الحروب في بداياتها مصطنعة في الواقع، والجميع يعرف دور النهضة الكبير، بل الأكبر في نجاح هذا الحوار، بحكم التنازلات الكبرى التي أقدمت عليها.
لكل هذا، ليس مفهوما الآن، العودة للنبش في سجلات خطب خطباء المنابر الموالين للنهضة، قبل حصول المصالحة السياسية ونجاح الحوار الوطني وتجاوز مرحلة التجاذبات القوية بين الإسلاميين المعتدلين وخصومهم السياسيين على مختلف أنواعهم.
قضية الأئمة الإسلاميين المعتدلين هي في النهاية قضية سياسية، ولذا يجب أن تحلّ بمعايير السياسة وضمن الإطار السياسي العام الذي يتسم بالتوافق والحوار والشراكة، وليس هنالك من موجب من افتعال قضايا أخرى تلصق بها وإحالتها للقضاء.