حصل منذ يومين تغيير على رأس الحكومة التونسية، وهو تغيير منتظر ومن الطبيعي أن يحصل في ظل أزمة الخبز على وجه الخصوص [وما أدراك ما الخبز وانتفاضة الخبز] والأزمة المعيشية والاجتماعية الحادة على وجه العموم. والناظر في ملامح رئيس الحكومة الجديد لا تخطئ عينه أمرين: خبرته القانونية- المالية في البنك المركزي وصلاته العرقية والثقافية مع الفرنسيين.
الأمر الأول يدخل في حسابات الداخل أما الأمر الثاني فقد يدخل في حسابات الخارج. فمن الطبيعي أن تتحرّك فرنسا لحماية مصالحها في إفريقيا عموما وفي شمال إفريقيا على وجه الخصوص. وتونس ليست خارج الحسابات الفرنسية. ولذا فإن التغيير الحكومي في تونس الآن علاوة على دواعيه الداخلية، فإنه ليس ببعيد أن يتوافق مع حسابات خارجية.
ومن المؤشرات على ذلك هو جانب من السيرة الذاتية لرئيس الحكومة الجديد السيد الحشاني، فأخواله فرنسيون من جهة أمه تيراز لو غول Thérèse Le Gall، فضلا عن حمله لجنسية مضاعفة تونسية- فرنسية هو وعدد من إخوته (جون أفريك، 3 أوت 2023) . أما الخبر المتداول عن كون أحد إخوته ضابطا في الجيش الفرنسي فهو إن ثبت سيكون مؤشرا آخر قويا على ترحيب فرنسا بالسيد أحمد الحشاني رئيسا للحكومة التونسية (بوظيفة وزير أول لدى الرئيس قيس سعيد).
الحرص المتجدد على تأمين فرنسا لمصالحها لدى الحكومة التونسية يأتي في سياق الرجة السياسية التي تجتاح إفريقيا حاليا بخروج النيجر عن الولاء لفرنسا وإيقاف تصدير اليورانيوم إليها، ودعم كل من نيجيريا وبوركينافاسو للانقلاب العسكري على الرئيس محمد بازوم الحليف القوي لفرنسا. وتأتي هذه الأحداث بعد طرد القوات الفرنسية من مالي منذ أقل من عام والاستفتاء على الدستور الجديد الذي أعاد العربية لغة وطنية رسمية للبلاد. وقبل ذلك بأكثر من خمس عشرة سنة قطعت رواندا علاقاتها مع فرنسا محملة إياها المسؤولية على إبادة زهاء مليون روندي من شعب التوتسي في الحرب الأهلية سنة 1994. وبصفة عامة فإن علاقة فرنسا الآن بالأفارقة في إحدى أسوإ حالاتها منذ استعمارها لعدد كبير من البلدان والأراضي الإفريقية والاستيلاء الممنهج والضخم على ثرواتها الطبيعية الذي استمر لعشرات السنين حتى بعد مرحلة استعمارها المباشر لها.
وبالتأكيد أن فرنسا قلقة للغاية الآن من احتمالات التغلغل الروسي في إفريقيا وتدعم النفوذ الصيني الاقتصادي فيها. ولذا، فإن تونس التي لم تهتد بعد إلى تطبيق سياسة براغماتية لصالحها في علاقتها بفرنسا باللعب على تناقضات المصالح بينها وبين منافسيها في إفريقيا، لا زالت حلقة ضعيفة في التيار الديكولونيالي الذي يجتاح إفريقيا حاليا، مدفوعا بشحنة عالية من الرفض للهيمنة الفرنسية دون الاهتداء حقا إلى وضع أسس بدائل وطنية وإقليمية معززة لاستقلال بلدانها وازدهارها الاقتصادي. فاستبدال هيمنة كولونيالية واقتصادية فرنسية وأمريكية بأخرى روسية وصينية ليس حلا جذريا لتأخر إفريقيا عن الاستقلال الكامل والازدهار الشامل.
وما يهمنا في السياق الراهن هو الإجابة على سؤال: ما هي حظوظ الحكومة الجديدة المرتقبة برئاسة السيد الحشاني في إنقاذ البلاد من أزمتها وهي تعاني من ابتزاز الفرنسيين الساعين بكل جهدهم لحل أزماتهم الاجتماعية (انتفاضة أصحاب السترات الصفراء) والاقتصادية (بفك عدد من البلدان الإفريقية الارتباط معها)؟ وقديما قيل "عريان يسلب في ميت" أو بالأحرى طماع جشع لا يشبع من سرقة قوت الفقراء والفقير يوهم نفسه أن الغني يقف بجانبه من أجل التكرم عليه بما ينقذه من شبح الفناء بالجوع. صحيح أن الاقتصاد الفرنسي يشهد الآن تعافيا نسبيا بعد فترة الركود السابقة، ولكنه يبقى محدودا للغاية ولم يمنع من توجيه وزير الاقتصاد الفرنسي منذأيام قليلة فقط نداء يكاد يكون نداء استغاثة إلى الصين لزيادة حجم الاستثمارات في فرنسا وتوفير فرص شغل إضافية فيها علاوة على الخمسين ألف وظيفة التي وفرتها الاستثمارات الصينية في فرنسا إلى حد الآن.
إجابة على السؤال المطروح أقول إن الحلول المرتقبة لن تكون إلا محاولات لتأجيل الانهيار الكبير الذي لن نتفاداه إلا بوحدة وطنية وحكمة استراتيجية وتكتيكية لا تتوفر الآن أي شروط لها.