مقدّمة:
نظّمت وزارة التربية حوارا وطنيا بهدف الإعداد لإصلاح شامل للمنظومة التربوية وذلك في إطار مقاربة أرادتها ديمقراطية وتشاركية. انطلق الحوار يوم 23 أفريل 2015 شارك فيه الاتّحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الانسان. وامتدّ الحوار على شهرين: من 15 ماي إلى 15 جويلية 2015. وحُرّرت في الغرض تقارير جهوية، رُفعت إلى وزارة التربية وكان عددها (26) تقريرا. انكبّت على جرد هذه التقارير لجنة وطنية متكوّنة من (9) أفراد حوّلوها إلى "تقرير تأليفي". وقد أخذت اللجنة الوطنية على نفسها:
- أن يكون التقرير التأليفي أمينا وشاملا للتقارير الواردة من الجهات،
- أن يحظى بأكثر قدر من الموضوعية، فيُقدّم المعطيات ويحسبها ويُبوّبها حسب نسب تواترها في التقارير الواردة على اللّجنة من المندوبيات (من الأكثر تواترا إلى الأقل) دون تقديم حكم في الغرض لها أو عليها،
- أن تكون صيغة التقرير وظيفيّة قابلة لكي تستثمر من اللجان الفنّية التي ستشتغل على مختلف محاور الإصلاح التربوي.
واهتمّ الائتلاف المدني بهذا "التقرير التأليفي" من منطلق أنّ الائتلاف يُمثّل طيفا واسعا من المجتمع المدني التونسي المهتمّ بمجالي التربية والتعليم. وكلّف لجنته العلمية بتحليله وتقييمه وفق المنهجية العلمية المستخدمة في الغرض، بهدف الوقوف على المواطن الموجبة فيه، وعلى المواطن السالبة التي تمثّل إخلالا في التعامل مع بيانات الحوار.
* الأبعاد الموجبة في التقرير التأليفي لوزارة التربية.
لا محالة، للتقرير التأليفي جوانب موجبة نذكر من ضمنها:
• اعتماده الحوار قاعدة لجمع آراء ومقترحات تكون من وجهة نظر الوزارة، منطلقا لإصلاح المنظومة التربوية؛
• تنوّع الفئات المستجوبة بغرض تأمين مشاركة واسعة من المجتمع التونسي: مدرّسون، متفقّدون، تلاميذ ، أولياء الأمور، جمعيات من المجتمع المدني…
• محاولة جرد التقارير الجهوية، وتضمينها في تقرير واحد.
• لكن هذه الأوجه المضيئة في "التقرير التأليفي" لا تُخفي جوانب وأبعادا سالبة، وهنات ذات طابع منهجي وإبستمولوجي في أغلبها، ممّا يطرح مسألة الموثوقية (أو الوثقية) في هذا التقرير، ومسألة أهليته للاستخدام في تمثّل الإصلاح التربوي الشامل وفعّاليته.
ومن هذه الهنات التالية:
1- يتبيّن من التقرير التأليفي أنّ المستجوبين خضعوا لمجموعة أو مجموعات من الأسئلة حسب الفئة المستهدفة؛ وهو أمر يُحدّ من توجّهات الحوار المعمول بها: إذ الأسئلة المسقطة قد لا تتواءم مع الاهتمامات الحقيقية المستجوبين في مجالي التربية والتعليم.
2- لم يُبيّن التقرير أعداد المستجوبين وفق كلّ فئة على حدة، ممّا يُثير قضية التمثيلية لهذه الفئات بإرجاعها إلى مجتمعاتها الأصلية؛ إذ النسبة المائوية العامة لكلّ الفئات دفعة واحدة، من شأنها أن تُخفي مستوى التمثيلية لكلّ فئة على حدة. ويعتبر هذا ضعفا كبيرا في هيكلة التقرير.
3- لم يُحدّد التقرير التأليفي التقنية المنهجية التي استخدمتها اللّجنة في جردها للتقارير الجهوية: هل استخدمت تقنية "تحليل المحتوى" كما هو متأكّد في مثل هذه الحالة نظرا لأنّ المدوّنة جاءت في شكل خطاب مكتوب أو مرقمن. فإن فعلت، فإنّ التقرير لا ينصّ على:
- النصّ الملائم،
- نوع وحدة التسجيل المعتمدة،
- شبكة التحليل.
هل العمل برمّته، تمّ وفق منهجية خبرية، أي غير قائمة على منهجية علمية.؟ إنّ وجاهة هذا التساؤل متأكّدة إذا علمنا أنه عمل رسمي تُشرف عليه الدولة. فالسؤال يبقى مطروحا في هذا المجال.
4- يُشير التقرير التأليفي إلى انعقاد أربع ورشات، هي:
- ورشة تكافؤ الفرص،
- ورشة تطوير المكتسبات،
- ورشة الحياة المدرسية،
- ورشة الحوكمة والتسيير.
لكن بقي التقرير ساكتا عن كيفية اختيار هذه الورشات؛ وعن العوامل التي أفضت إلى اختيارها دون سواها من محاور الإصلاح.
5- جاء في التقرير أنّ "السياسات التربوية والمبادئ العامة": هي إنتاج ورشة من ورشات الحوار الوطني. لكن الورشات المعلنة في التقرير التأليفي هي أربع: فأين عقدت هذه الورشة ومن شارك فيها؟
6- طُرح في هذه "الورشة" السؤال التالي: كيف يمكن للتشريعات في مجال التربية خدمة أهداف الإصلاح المرتقب والاستجابة لانتظارات المجتمع من المدرسة؟
أين هي أهداف الإصلاح المرتقبة؟ وما هي انتظارات المجتمع من المدرسة؟
يمكن اعتبار هذا السؤال مصادرة على المطلوب.
7- كذلك لم يُحدّد التقرير مفهوم "المنوال" التربوي الذي استخدمه. هل المقصود به المقاربة التربوية مثل المقاربة بالكفايات، أو المقاربة الفلسفية للإصلاح.؟
8- جاء من ضمن البدائل المعروضة، وضع إستراتيجية إصلاح مدخلها مقاومة الفشل المدرسي. الفشل المدرسي ليس مدخلا معتمدا في أوساط الاختصاص. فالمداخل المعترف بها عالميا عددها خمسة، لا يُوجد من ضمنها مدخل "مقاومة الفشل المدرسي."
9- اعتمد التقرير عرضا خطّيا للبدائل التي كان عددها (411) بديلا؛ وهو عدد مرتفع. ونعلم من منظور علوم التربية، أنّ طبيعة المفردات (أو العناصر) التربوية (ممثلة هنا في البدائل) لا يجوز ترتيبها من (1) إلى (411) مفردة؛ حتّى وإن جاءت في محاور متباينة؛ وذلك لسببين:
يتمثّل الأوّل منهما في أنّ البدائل ليست لها نفس المكانة ولا نفس الطبيعة، ولا أيضا نفس الدرجة (أو القوّة) من المسؤولية في إنجاح الإصلاح التربوي؛ وبالتالي لا يمكن ترتيبها كما هو في التقرير التأليفي. فيتعيّن أوّلا وزن درجة هذه المسؤولية أو القوّة باستخدام "الانحدار المتعدّد".
ويتمثّل السبب الثاني في أنّ المفردات التربوية والبيداغوجية لا تترتّب خطّيا؛ ذلك لأنّها تنتظم وفق نظام آخر يُذكّر بمنطق "الهباءة" (molécule) والخلية في البيولوجيا أو الهباءة والذرّة في الهندسة الذرّية: ومفاد ذلك أنّ ما سمّاها التقرير التأليفي بدائل، فهي تنتظم في الحقيقة، في مجموعات حول "نواة" ممّا يدعو إلى إعادة تنظيم البدائل على هذا النحو.
ونضيف أنّ الإبقاء على التصنيف كما ورد في "التقرير التأليفي"، لا يساعد على أعمال اللجان الفنّية التي عليها أن تباشر (411) موضوعا؛ ذلك لأنّ إنجاز هذا العمل يتطلّب ربّما أكثر من عشرين أو ثلاثين عاما. بينما التعامل مع النواتات لا يتطلّب بحكم محدودية عددها، كلّ هذا الوقت (مسألة اقتصادية).
الخاتمة
التقرير التأليفي هو بمثابة مادة خام ما زالت تحتاج إلى المعالجة والتحليل قبل التأليف وذلك باستخدام مقاربات منهجية وعلمية تمكّن من استخراج توجّهات واستنتاجات تكون وظفيّة تُضيء الطريق للجان الفنّية التي ستتولّى استثمارها في تمثّل الإصلاح التربوي المنشود؛ خصوصا إذا علمنا أنّ المنتظر أن يُوضع إصلاح للمنظومة التربوية يكون عميقا وفعّالا وفاعلا. ونُلاحظ بالمناسبة أنّ البدائل المعروضة في "التقرير التأليفي"، تشكو من خلط بين الإصلاح السطحي والإصلاح العميق. فالإصلاح العميق يُركّز على العوامل البيداغوجية والتربوية، وعلى العوامل النفسية والثقافية والأخلاقية وعلى العوامل القيمية على مستوى الاتّجاهات والسلوك؛ وأيضا على تكريس التقييم الاستراتيجي، وتحديد العناصر الاستراتيجية في السياق والمحيط ؛ بينما الإصلاح السطحي وإن كان لا محالة مفيدا وضروريا؛ لا يُمثّل إلا جهدا يوميا متواصلا مثل إصلاح البنية التحتية للمؤسسات التعليمية، وإقامة شبكات المياه والكهرباء، إلى غير ذلك.