اقترن مفهوم الإيديولوجيا في العالم العربي منذ سقوط المنظومة الاشتراكية وسلسلة هزائم الأنظمة القومية العسكرية وفشل الإخوان في السودان والإجهاض على تجربتهم في المهد في الجزائر، بمعنى سلبي. وبشر فوكوياما بنهاية التاريخ عند مرحلة أخيرة ونهائية هي الليبيرالية المعولمة. فظهرت أحزاب صُنِّفت أحزاب برامج لا أحزابا عقائدية، وظهرت إثرها شركات سياسية هي امتداد لشركات اقتصادية ومجمّعات ولوبيات مصالح مالية، وبصفة متلاحقة ظهرت الشعبوية والفاشية وكلتاهما معادية للديمقراطية.
إلا أن الحاجة للأفكار والمثل والمحركات العقائدية لم تنقطع. الفكرة القومية ومعاداة الصهيونية والتشبث بالهوية ورفض التفاوتات الطبقية المجحفة والاستغلال الفاحش الممارس من رأس المال في إطار شركات المناولة التي تشبه مؤسسات إقطاعية ومؤسسات سُخرة، مع التوجه المتزايد نحو الخوصصة، هذه الفكرة حاضرة دون شك ولو على نحو ضمني في وعي قطاعات شعبية واسعة.
في تونس اندلعت ثورة رفعت شعارات ذات محتوى مواطني (ضد الحڨرة) وديمقراطي(ضد الاستبداد) واجتماعي(المطالبة بالشغل والحرية والكرامة الوطنية). لكن ظهرت بعد ذلك في مرحلة الانتقال والبناء الديمقراطي صعوبات ذات علاقة بمسألة الهوية(صياغة الفصل الأول من الدستور، محاولة التوفيق بين حرية الضمير ومنع الاعتداء على المقدسات في الفصل السادس منه، التأكيد على الهوية العربية الإسلامية في الفصل 39، الجدل الكبير حول قضية المساواة في الميراث وفشل تمرير القانون الجديد المتعلق بها..الخ) وذات علاقة بمسألة الموقف من التطبيع مع الصهيونية(وضعيات وأمثلة عديدة آخرها موجة الاستنكار العاتية لمحاولات التطبيع الثقافي من قبل بعض المثقفين الساعين للشهرة والكسب المادي على حساب الثوابت الوطنية والقومية).
كما نسجل وجود إجماع وطني ضد المد السلفي المتشدد والمتورط في الجرائم الإرهابية مع استنكار ورفض شديد لموجة الإسلاموفوبيا المنطلقة من بلاد المستعمر القديم- الجديد، الراكبة بطريقة انتهازية على موجة الرفض العالمي للإرهاب. نستنتج من هذا كله حصول تشكل تدريجي لملامح إيديولوجيا وطنية جامعة عابرة للأحزاب والجماعات.
يمكن تلخيص هذا الإيديولوجيا الضمنية(رغم أن بعض عناصرها مصوغة بشكل صريح في دستور الثورة) ونشرها على محاور ثلاثة:
- محور الهوية (اللغة والدين) المتداخل مع المسألة القومية والصراع العربي الصهيوني من جهة ومع الصراع الحضاري الأوروبي العلماني- الإسلامي من جهة ثانية.
- المحور الاجتماعي : الشغل- الكرامة- سيادة الشعب على الثروات الوطنية- التنمية الجهوية- الخدمات الأساسية : الصحة- التعليم- النقل.
- المحور السياسي : الديمقراطية.
عناصر هذه الإيديولوجيا الوطنية يمكن أن تكون أرضية عريضة لمشروع وطني يقع في مساحة المشترك الوطني الجامع.
لو قيمنا الآن نصيب الأحزاب السياسية من هذه الإيديولوجيا الضمنية، لوجدنا:
- حزب حركة النهضة : يأخذ نصيبا من محور الهوية ينازعه فيه أحزاب ذات مرجعية إسلامية صريحة (حزب التحرير) أو ضمنية (ائتلاف الكرامة). كما يأخذ بطريقة ما (توفيقية) نصيبا من المحور السياسي(يريد أن يتسمى بالإسلاميين الديمقراطيين). ولكن المسألة الاجتماعية لم تتجاوز لديه مستوى إعلان نوايا.
- اليسار : انحرف عن توجهه اليساري الاجتماعي وتضخم لديه التوجه اليساري الإيديولوجي المعادي للهوية لغة وتدينا، مع تعامل براغماتي ضيق مع المسألة الديمقراطية (أنا مع الديمقراطية طالما وجدت فيها مغنما وأنقلب عليها عندما تكون لصالح خصومي).
- القوميون : يتميزون بالتمسك بثوابت الهوية لكن بنكهة مخالفة للهووية الإسلاموية. وإذا صرفنا النظر عن المسائل الخلافية في الهوية، فإن المشترك معهم هو في مستوى مكانة اللغة العربية والجانب العقدي والتعبدي العام للدين، ومعاداة الصهيونية واحتلال الأراضي العربية. المسألة الاجتماعية حاضرة في الخطاب القومي. أما المشكلة الكبرى فهي تقع لديهم في مفهوم الحرية. فهم يمنحون أولوية لمعنى التحرير على معنى الحرية المواطنية. أي التضحية بالديمقراطية بدعوى توحيد القوى من أجل التحرر الوطني. بينما غاب عنهم أنه لا تحرير للأوطان إلا بمواطنين أحرار.
-العلمانيون الليبيراليون : الأحزاب القريبة من المحور الفرنكفوني: لهم مفهوم مائع ومخادع لمسألة الهوية. وهو في جوهره مفهوم مناقض لها. كما أن تعاملهم مع الديمقراطية تعامل براغماتي شكلاني: المحاولات المستمرة للانقلاب على نتائج المسار الديمقراطي والتعامل البراغماتي الشكلاني معها، لغلبة العامل الإيديولوجي والسياسي اللاسيادي على عقلهم السياسي. أما المسألة الاجتماعية فلا حلول لها لديهم، بحكم خيارهم السياسي التابع لمركز التحكم الخارجي.
لو نأتي الآن لما سماه بعض أصدقائنا بتيار الناس، أي عموم المواطنين المتحررين من هيمنة الحسابات الحزبوية والإيديولوجية الضيقة، فسنجدهم يتبنون على نحو ضمني تلك الإيديولوجيا الوطنية التي حددنا ملامحها آنفا: الهوية والديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي. أو لنقل الهوية والديمقراطية الاجتماعية.
يمكن القول إن لهذا التوجه الإيديولوجي الضمني الوطني الذي تشكل مع الثورة (قبيلها وأثناءها وفي مرحلة الانتقال والبناء الديمقراطي)آباء رواد. وهؤلاء الآباء من صنفين:
- صنف أول بصيغة الضم : أي بضم زعماء المسألة الهووية إلى رواد القضية الديمقراطية (الحريات العامة في خطاب مع قبل الثورة) مع وجود بعض التقاطعات بين الفريقين، إلى قادة الوعي الاجتماعي (في النقابات وفي بعض الأحزاب اليسارية).
- صنف ثان جمع بين مختلف أصناف هذا الوعي المركب : الهووي والديمقراطي والاجتماعي. يمكن القول أن أبرز من يمثل هذا الصنف هم من تسموا بداية بمجموعة اليسار الإسلامي، ثم الإسلاميين التقدميين لاحقا (احميده النيفر، صلاح الدين الجورشي، محمد القوماني، عبد العزيز التميمي، منصف دريرة، مهدي مبروك، زهير إسماعيل، الحبيب بوعجيلة، مصدق الجليدي،الخ). وهنالك الخط الفكر السياسي العروبي الديمقراطي الاجتماعي الذي يتزعمه الدكتور منصف المرزوقي.
الإسلاميون التقدميون تميزوا عن عموم الإسلاميين، رغم قلة عددهم، بوعيهم الاجتماعي المبكر (ومن هنا جاءت تسمية اليسار الإسلامي) وبميزات أخرى لا يتسع المجال لذكرها، ولكن مسألة الحرية لم تكن مطروحة لديهم في المستوى السياسي المباشر(الديمقراطية) وإنما من خلال تبني الدعوة لتحرير العقل من وطأة التعامل الحرفي مع النص وهيمنة سلطة الماضي الأبدي للتراث وشيوخه ورموزه. وهذا المنهج في التعامل مع النص والتراث يفضي مباشرة لمفهوم الحرية في إطار المواطنة أي الديمقراطية. ولذلك حاربهم النظام الاستبدادي بتوصية من عراب مستشاريه في المجال الثقافي (أستاذ التربية الإسلامية التجمعي بوظيفة مخبر أنس الشابي).
اليسار الإسلامي أو الإسلاميون التقدميون لم تكن لهم مشكلة مع الهوية وأغلبهم أو كلهم جاؤوا من الحركة الإسلامية، فقطعوا مع توجهها السلفي والإخواني.
أما التوجه العروبي الوطني الديمقراطي الاجتماعي فهو الذي تشهد به كتابات الدكتور منصف المرزوقي التي تبناها وأضاف إليها حراك شعب المواطنين، ثم الحراك كذراع سياسي للحراك بمفهومه الشعبي المواطني الواسع.
ولذلك شخصيا مثلا لم أجد أي حرج في الانضمام إلى الحراك والعمل إلى جانب الدكتور منصف المرزوقي، حيث تحوز مسألة الهوية مكانتها الجديرة(اللغة والدين) بها مع توجه مواطني وعروبي، ومغاربي وديمقراطي اجتماعي واضح. المشكلة هي أن الصيغ السياسية المتتالية لهذا التوجه شهدت خيبات متكررة، بحكم عدة عوامل لا يتسع المجال لذكرها، ولكن هذا لا يمنع من الاعتقاد أو التفكير في أن هذه الصيغة التقدمية للهوية المندرجة في سياقها الوطني الواسع(العروبة) والمتشربة للمعنى العميق للحرية (المواطنية (الديمقراطية) والوطنية(السيادة الوطنية والتحرر الوطني) والكونية(حق الشعوب في تقرير مصيرها وحقوق الإنسان)) مع تركيز خاص على المسألة الاجتماعية، هو ما يمكن أن يعبر بصدق وعمق عن هواجس هذه المرحلة وعن الحاجات الحقيقية للشعب والبلاد.
فهل يمكن فتح حوار بين مختلف القوى والرموز والشخصيات الوطنية للالتقاء مجددا وبشكل جديد على قاعدة صيغة الوعي الأصيل الجامع هذه؟