يستعصي ادوارد سعيد على التصنيف، التصنيف الذي يغري الباحث غالباً بحشر الأفكار في خانات ضيقة من المدارس والمذاهب والاحترافات، ناقد أدبي لكنه ظل يقظاً في العالم ولم يغره النوم في النص وكان مفكراً عضوياً ينتمي الى هموم البشرية دون أن ينسى انتماءه القومي وسياسياً، دون أن تستدرجه السياسة الى أحابيلها وأكاديمياً، ولكنه تحرر من الاحتراف الضيق يطير بجناحين قويين فوق كل العوالم لكنه ما حط يوماً إلا على النار، تحاشى كل الأقفاص لأن فضاءه العالم الأوسع. قل: ادوارد سعيد مثقف الدنيا.
والحق ان اقامة هذا المقدسي في الدنيا دون أن يبرحها حولته، أي هذ الدنيا، ناقداً جسوراً، فتحول النقد عنده الى مقاومة تسندها معرفة بالدنيا، فمن ذا الذي يستطيع ان ينقد العالم مقاوماً دون أن يحمل سلاح النقد معرفة.
ولأن ادوارد سعيد بهذا الشمول وهذا العصيان على التصنيف أقف عند ثلاثة مفاهيم مترابطة في فكر ادوارد سعيد النقد، النص، الدنيا.
سعيد هذا الجناح يعلن أول ما يعلن تمرده على ما يسميه «الخبرة الاحترافية ذات الأثر المخزي على العموم».
«فالخبرة الاحترافية كانت بالنسبة لطبقة أهل الفكر خدمة تسدى لا بل تباع، للسلطة المركزية في المجتمع بشكل عادي، وهذه خيانة الكتبة المأمورين إذ تقوم خبرة نقاد الأدب والكتاب الانسانيين المحترمين على عدم التدخل في عالم الأمم، أي ذلك العالم الذي يمكن دعوته أيضا بمنتهى البساطة.. الدنيا» يتجلى هذا الاحتراف المخزي في النظرية الأدبية الأمريكية التي انكفأت من حركة تدخلية جسورة عبر تخوم التخصص في أواخر السبعينات ودخلت في «النصية».
«فالنصية» كحالة نقدية لم تعد تتدخل في الحياة ولا تعني أبداً أن اقتناص أي شيء دنيوي أو ظرفي أو ملوث اجتماعياً.. وهكذا عزلت النصوص عن الحياة: عن الظروف والحواس الجسدية.
يعلن ادوارد في موقف نقيض قائلاً: «فموقفي هو القول بأن النصوص دنيوية، وهي أحداث الى حد ما، وهي فوق هذا وذاك قسط من العالم الاجتماعي والحياة البشرية وقسط بالتأكيد من اللحظات التاريخية التي احتلت مكانها فيها وفسرتها حتى حين يبدو عليها التنكر لذلك كله».
إذاً النقد هو كشف العلاقة بين النص والدنيا، بل النص هو جزء من الدنيا، فالنقد أبعد ما يكون عن اضفاء الشرعية على الوضع الحالي، أو الالتحاق بركب طبقة كهونوتية من البطاركة والميتافيزيقيين الدوغمائيين، بكلمة أخرى: إن النقد هو الذي يؤكد الترابط بين النصوص وبين الوقائع الوجودية للحياة البشرية، والسياسية، والمجتمعات، والأحداث.
فالنص أصلا لا ينشأ إلا بوصفه تعبيراً عن الوقائع، وهذه الوقائع هي موضوع النقد أو الوعي النقدي. إن انتماء النص الى الدنيا هو بالضرورة انتماء الكاتب نفسه، وعليه انتماء الناقد أو النقد.
إن الدنيا مفهوما: هي الثقافة التي يرتبط بها النقاد لا بالولادة والانتماء القومي والمهنة، وهي المنظومة التي يكتسبها النقاد من خلال التقرب بالقناعة الاجتماعية والسياسية والظروف الاقتصادية والتاريخية، وبالجهد الشخصي والارادة الحديدية.
فالنص والناقد كلاهما أبناء الدنيا، ولأن النقد ابن الدنيا فإن النقد يساوي المقاومة، فالنقد المقاوم هو النقد الذي لا يتقلص الى مذهب أو موقف سياسي، إن هويته هو الاختلاف عن الأنشطة الثقافية الأخرى.
«إن النقد كما يقول ادوارد سعيد يجب أن يرى نفسه مشجعاً على الحياة، ومعارضاً بحكم تكوينه، لأي شكل من أشكال الطغيان والهيمنة والظلم، مع العلم أن أهدافه الاجتماعية تتمثل بإنتاج المعرفة بحرية بعيداً عن القسر ولمصلحة الحرية البشرية».
أعود الى مفهوم النص كما يقدمه ادوارد، يكتب ادوارد قائلاً: «وسواء بقي النص مصوناً أو نحي جانبا لفترة من الزمن، وسواء كان على رف مكتبة أو لا، وسواء كانت النظرة اليه بأنه خطير أو لا: فهذه الأمور عليها ان تتعامل مع وجود النص في الدنيا. وهذا أمر أكثر تعقيداً من العملية الخاصة للقراءة، إن هذه المضامين نفسها صعبة بلا شك على قدرتهم كقراء وكتاب في الدنيا ».
النص والقراءة يتمان داخل الدنيا، النص بما فيه من دنيوية وظرفية ومنزلة تحدث له خصوصية وتاريخية يفرض قيوداً على المؤول والتأويل.
وهذا يعني ان ترك النص للتأويل اللامحدود فقدان لدنيوية النص، لأننا إذ ذاك سنكون أمام عدد من القراءات لا محدودة وجميعها مغلوطة، لأنه لن تكون هناك قراءة أفضل من غيرها، فانشداد النص الى الدنيا يضع قيوداً على القراءة وحدوداً للتأويل.
إن القول بأن دنيوية النص تفرض على القارئ الناقد حدوداً لفعله لا يعني عدم الكشف عن الأصوات المكبوتة أو الخرساء التي تقبع داخل النص، بل على الضد من ذلك إن من شأن النقد أن يكشف عن هذا كله ولكن كنص في الدنيا.
كما لا يعني ان النص محدود في نمط واحد وحيد من القراءة، ولكن القراءات يجب أن تظل مشدودة الى النص بما هو نص عن الدنيا وفي الدنيا، وسواء كان النص أدبياً أو فكرياً أو فلسفياً فإن النصوص جميعها خاضعة لمبدأ علاقة النص بالدنيا.
إن من شأن توسيع مفهوم النقد بوصفه كشفاً وتحليلاً وفرضاً وحفراً يجعل من النقد نصاً جديداً أو إن شئت قل كتابة خاضعة هي الأخرى للنقد.
ولو تركنا جانباً دراسات ادوارد سعيد حول الأدب، فإن تناوله للمستشرقين، لهو التطبيق المبدع لمفهوم النقد الادواردي على نصوص المستشرقين بوصفها نصوصاً هي ثمرة ثقافة قوة سلطة، لقد قرأ ادوارد المستشرقين انطلاقا من العلاقة بين المعرفة والظروف الثقافية والشخصية والتاريخية التي يتم فيها انتاج المعرفة، أي من خلال علاقة النص بالدنيا.
وفي مقالته «الاسلام والفيزيولوجيا والثقافة الفرنسية: رينان وماسينون» يقترح ادوارد ثلاث فرضيات لتفسير اختلاف الذوق بين المفكر الفرنسي والمفكر الانكليزي،
الأولى: أن المفكرين الفرنسيين قد خضعوا للتنظيم الملكي كي ينشروا اشعاعهم من باريس.. وتمركزوا في مؤسسات الدولة التي كان هدفها جعل المعرفة معتمدة على كل ما هو مأذون رسميا من علوم وهيئات علمية ومعايير رهينة. في حين فإن المفكرين الانكليز تحركوا في إطار تجمع اجتماعي جديد تنامى على أساس الشورة الصناعية الحديثة، فتطورت أفكارهم في اطار تقليدية من ملاك الأراضي التي هيمنت على الثقافة في كل الزوايا، فكانت الهيمنة للآراء التقليدية التي لم تتأثر بالتطورات الثورية الأوروبية.
أما الفرضية الثانية التي تدلل عليها الدراسات الاستشرافية فهي أن الامبراطورية البريطانية كانت أقدم وأكثر اتساعاً من الامبراطورية الفرنسية. كما ان مكانها في الحياة الثقافية الانكليزية، كواقع وكمصدر أو موضوع للمعرفة، كان قائما على اختلافها وبعدها عن المجتمع المحلي، وفضلا عن تسخيرها له أخلاقيا، في حين كانت الثقافة الفرنسية تعامل مستعمراتها بشكل مختلف.
والفرضية الثالثة: ان الموقف الانكليزي من اللغة في أوساط الفيلولوجيين والشعراء بالأساس كان موقفاً دينياً فلسفياً الى حد كبير، ولهذا ظل الارتباط بين اللغة والدين.
يخلص ادوارد من هذه الفروض ليبرز لماذا كان عمل رينان وماسينون بالكيفية التي تناولوا بها الشرق، وما المقارنة مع الانكليز إلا طريقة لتأكيد الفرق المذهل في الانتاج والأسلوب الثقافيين، وكيف علينا أن نقرأ رينان وماسينون وصفاً للعلاقة بين المعرفة، والظروف الثقافية، والشخصية، والتاريخية.
وبعد: إن علاقة النص بالدنيا، التي هي بمثابة منهج دراسة نقدية، هي نفسها التي تفهمنا نص ادوارد نفسه وهذا أمر يحتاج الى مقالة أخرى.