ليس في نيتي أن أكتب نصاً نظرياً حول العلاقة التي تربط الثقافة بالسياسة، ولقد كتب في موضوع كهذا الكثير الكثير. وإنما موضوعي هو الآتي: كيف تبدو هذه العلاقة الآن في حقل التناقضات التي تعيشها بعض البلدان العربية.
فرضيتي هي أنه لو تعمقنا قليلاً في هذه المرحلة التي نعيشها بكل تناقضاتها وصراعاتها لوجدنا أن كل هذا الذي يجري هو في وجه من وجوهه صراع ثقافي ..
وما يتولد عنه من وعي بالحياة وسلوك مطابق. سواء أكانت الثقافة بالمعنى الموضوعي أو كانت بالمعنى الأيديولوجي. فالترابط بين الثقافة والوعي والسلوك يظهر في هذا العنف والسياسة وفي النظرة إلى السلطة والآخر. لم يكن الربيع العربي إلا ثورة ثقافية في أحد وجوهه، ثقافة الحداثة والحرية والمدنية وروح العصر ضد الثقافة السلطوية المتأخرة وما قبل المدنية ذات العالم الضيق من العلاقات العبودية. ومع انهيار هذه السلطات انتفضت من سباتها كل الثقافات المتأخرة التي حافظت على وجودها بفضل ثقافة هذه السلطات المتأخرة.
وهذا لا ينطبق على ثقافة الجماعات فحسب بل وعلى ثقافة الأفراد الذين سرعان ما أظهروا مخزونهم الثقافي في الانحياز. ويجب أن أضيف فرضية أخرى ألا وهي أن التدخل السياسي الغربي نفسه يحمل في طياته طابعاً ثقافياً. إني وأنا أفترض ذلك لا أنفي أبداً تلك الشروط الاجتماعية التي وقفت وراء الانفجار الكبير. السؤال عندي هو الآتي كيف ظهرت الثقافة في السلوك السياسي؟ كيف ظهرت الثقافة الموضوعية والذاتية في السياسة؟
لقد ظهرت أولاً الثقافة البطرياركية في كل أشكالها الطائفية والمناطقية والدينية، بكل أشكالها التعصبية، بل واستعادت حضورها العاصف في إرهاب سياسي، وإرهاب مسلح. والمتتبع لحزمة المفاهيم المستخدمة في الخطاب الأصولي سنجدها مفاهيم ثقافة قديمة: الخلافة، الشريعة، الردة، الكفر، أهل الحل والعقد، الشورى، الجماعة.
فيما عبرت مفاهيم السلطة السياسية عن ثقافة الاستبداد كقائد الوطن وسيد الوطن والشعور القومي والمؤامرة الكونية. وفي الوقت نفسه انزوت ثقافة الحداثة المدنية في جمهور وجد نفسه بين فكي كماشة الأصولية العنفية والسلطة الاستبدادية المتأخرة.
فالثقافة الحداثوية الديمقراطية، وهي ثقافة لا تؤمن بالعنف، راحت تقدم خطابها السياسي من وحي مفاهيم الديمقراطية والدولة والدستور والحرية والمواطنة. وذلك تعبيراً عن ثقافة روح العصر التي اخترقت وعي عدد كبير من الفئات الوسطى وبخاصة فئات المثقفين. فالسياسة في اتكائها على الثقافة، تبحث عن الشرعية عبرها، فتوظف الثقافة في مصالحها وتختار منها ما يؤكد وجودها..
وبالمقابل إن الثقافة وقد عبرت عن نفسها سياسياً نقلت وعيها الثقافي إلى حال الفعل السياسي العملي. والحق أن هذه العلاقة المعقدة عكست بدورها التقسيم الطبقي والفئوي للمجتمعات، تماماً كما عكست التقسيم الديني والطائفي. فالفئات ذات الأصول الفلاحية -القروية ذات الثقافة التقليدية مالت في أكثريتها بولائها السياسي إلى أشكال متعددة من الإسلام السياسي..
وبعضها الآخر حافظ على ثقافته الطائفية فانخرط في الولاء السياسي الطائفي. فيما عبرت الفئات المدنية الوسطى عن نزوعها السياسي بثقافة مدنية ليبرالية. وانتصرت البرجوازية كالعادة إلى ثقافة السوق التي قادتها سياسياً إلى دولة الحداثة دون انخراط عملي في الصراعات.
وهذا لا يعني أن الثقافة الروحية المبدعة ذات ترابط مباشر بالسياسة أو يجب أن تكون في خدمة السياسة، بل هي ذات استقلال نسبي عن السياسة، فالأدب بكل أصنافه: الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرحية والخاطرة، والفن التشكيلي: الرسم والنحت كل هذا عالم مستقل عن السياسة استقلالاً نسبياً، وإذ أقول نسبياً فلأنه في الإبداع حظ من الموقف.
فالقصيدة التي تمجد الحرية ليست هي القصيدة التي تمجد الاستبداد وقس على ذلك. أما الفكر فهو أقرب أشكال الإبداع إلى الموقف السياسي، بل ويتحول إلى حجة عند أطراف الصراع السياسي. فضلاً عن أن الأيديولوجيا هي أحد أهم أرحام السياسة.
والمثقف لا يستطيع أن يقف موقف المتفرج من الصراعات التاريخية وشكلها السياسي. بل إن القول إن المثقف هو ضمير الأمة يظهر أكثر ما يظهر في حقل الصراعات التي تنتمي إلى تحديد المصير، بوصفه منحازاً إلى القيم الإنسانية الكبرى : الحرية والحق والكرامة.