لم يشهد تاريخ البشرية ما نشهد الآن من جديد وتغير، وعلى كل الصعد كافة، ولم تنج الكتابة من هذا. إنها المرحلة الأولى في التاريخ البشري التي يمكن وصفها بعصر الكتابة للجميع. إذ ظلت الكتابة قبل ظهور الإنترنت وما ولده من وسائل حرّة في التعبير والكتابة محصورة بالفلاسفة والمفكرين والشعراء والروائيين والمسرحيين واللاهوتيين الصحفيين، فعدد الذين كانوا يمارسون الكتابة انتاجاً للنصوص محدود جداً.
وما إن انتشر الإنترنت ووسائله حتى صارت الكتابة بمتناول الجميع تقريباً. بل وصار الجمهور قادراً على إصدار الأحكام النقدية والاستحسانية والشتائمية بحق نصوص المبدعين. ولقد شاعت في التعليقات حول النصوص المتنوعة عبارة “أجمل ما قرأت”، تعبيراً عن الاستحسان الشديد.
لا شك إن القراءة تزود القارئ بأفكار لم ينتبه إليها، سواء كان موافقاً أم لا، بل إن القراءة تزود العقل بالوعي النقدي، بالاختلاف، بالقبول، بالرفض، بالاحتجاج، بالفرح، بالتقزز، بالمتعة، بالمعرفة… الخ. فالقراء لا يجب أن يقرؤوا ما يوافق هواهم وبنية وعيهم، بل إن قراءة المختلف تعطي فرصة للقارئ لامتحان وعيه، ومعرفة بخصومه، بل وقد تنتج صدمة تنقله من عالم إلى آخر.
بعد انتشار الفيسبوك، صارت جملة مديح النص المقروء: “من أجمل ما قرأت”، هي الأكثر انتشاراً. ولكن لنفكك هذه الجملة: “من أجمل ما قرأت”. الجملة صادرة عن قارئ غالباً لا نعرفه. وقد لا نعرف صاحب النص أحياناً ومعاني هذه الجملة متعددة. سأفترض بأن جميع الذين علقوا بهذه الجملة صادقين.
فقد تقال هذه الجملة المدائحية على سبيل إظهار المودة والمجاملة، وقد لا يقصد صاحبها معناها الحرفي. فعالم الفيسبوك يعج بالمجاملات اللطيفة بين الأصدقاء كما يعج بالشتائم الوقحة بين المختلفين الأعداء. لكن هب بأن صاحب جملة (من أجمل ما قرأت) كان صادقاً، ومقتنعاً بأن هذا النص من أجمل ما قرأ.
فقد يكون هذا الحكم صادراً عن شخص لا يقرأ بالأصل إلا القليل جداً، وعليه فإن ضحالة قراءته وراء سحر النص الذي قرأه. وإذا رأيت هذا الحكم المدائحي، وأنت من أهل المعرفة، بحق نص خال من أي قيمة، أدركت من فورك بأن: هذا الحكم صادر عن شخص فقير معرفي.
وهناك حالة في القراءة وهي حالة الفرح بقراءة نص يوافق ما في رأس القارئ، ولا يضيف جديداً على ما في رأسه، فيكون مدح النص مدحاً للقارئ لنفسه وليس للكاتب. وقد تصدر جملة من أجمل ما قرأت عن موقف أيديولوجي من نص أغنى وعي القارئ الأيديولوجي، وعزز حجته الأيديولوجية. فتكون جملة أجمل ما قرأت جملة أيديولوجية ليس إلا.
أما إذا جاءت جملة أجمل ما قرأت مبررة بشرح لماذا هذا النص أجمل ما قرأت فدلالة على إضافة معرفية زوده بها النص. وكلمة “أجمل” في كل أحوالها لا تنتمي إلى مفهوم الجميل في هذا السياق، بل إلى الشعور بالرضا. فأجمل اسم تفضيل، ينحصر في سياق تفضيل نص على كل ما قرأ سابقاً، بمعزل عن حجم المقروء.
وبالمناسبة، فإن المشغولين بالقراءة الدائمة بحكم حب المعرفة أو بحكم الاشتغال لا يستخدمون جملة (من أجمل ما قرأت)، بل يعلقون على المكتوب في الفيسبوك راضين أو غير راضين، ناقدين وموافقين، مع كلمات تشير إلى الاستحسان أو الاختلاف، أو الاهتمام، أو المحبة.
وبكلمة أخيرة نقول: لا يحسب صاحب نص مدحه القارئ بجملة أجمل ما قرأت: بأن نصه جميل وجيد بالضرورة، فمستوى الوعي والصداقة والانتماء والأيديولوجيا لا تصدر عنها أحكام يعتد بها في أكثر الأحوال.