استمعت صباحاً إلى أغنية محمد عبد الوهاب (ما أحلاها عيشة الفلاح)، وبفعل التداعي تذكرت نايف حواتمة، تذكرت لقاءه بنا وحديثه إلينا عن الفن الذي يدافع عن الطبقة البرجوازية، والتي كان يمثلها عبد الوهاب وضرب ،لنا مثلاً على الانحياز البرجوازي بأغنية (ما أحلاها عيشة الفلاح) التي تريد أن تُبقي الفلاح في حياته البسيطة وكده عند صاحب الأرض. ولقد منعنا احترامنا للشخص من أن ندافع عن عبقرية موسيقى عبد الوهاب التي لا يمكن ربطها ميكانيكياً بمصطلحات التناقض الطبقي والصراع الطبقي.
وأنا أتذكر هذه الواقعة تداعت لي واقعة أخرى شبيهة. فلقد احتفل عميد كلية الآداب في الثمانينات بمشرفه القادم من القاهرة بدعوة من جامعتنا، وهو الدكتور فؤاد زكريا، ودعانا إلى بيته نحن أساتذة قسم الفلسفة.
وكنا نصغي إلى ضيفنا الكريم وهو يحدثنا عن وقائع كثيرة ومنها واقعة رده على كتاب حسنين هيكل (خريف الغضب) بكتابه السجالي (كم عمر الغضب). وعبر عن غضبه من هيكل بتجاهله هذا الكتاب.
ويبدو بأن الأستاذ القدير نايف بلوز قد تأفف من خطاب الضيف. فسأل الضيف متهكماً كعادته، ما رأيك يا دكتور بأم كلثوم؟ فأخذ الدكتور زكريا السؤال على محمل الجد وأجاب: أنا أول من أشار إلى أن أم كلثوم أحد أسباب حرب 1967، حيث كانت تقوم بوظيفة المخدر للوعي. وأضاف: وتخيلوا وهي تصدح وتقول: (يا ريت زماني ما يصحنيش). ولأني كلثومي الهوى قهقهت بشكل عفوي قهقهة أغضبت المضيف.
وجملة (يا ريت زماني ما يصحنيش) ترد في سياق أغنية عاطفية لأم كلثوم هي (أمل حياتي).
لقد ذم السياسي اليساري عبد الوهاب لأنه ينتمي إلى عصر البرجوازية، وأغانيه تعبر عنها ضد الطبقة الفلاحية والعمالية، وذم الفيلسوف اليساري أم كلثوم لأنها قامت بوظيفة المخدر للوعي والدعوة إلى استمرار النوم في الزمان المعيش، فكانت من أسباب الهزيمة.
السياسي المثقف الذي يقود حركة مقاومة مسلحة ينال من عبد الوهاب الذي يتغزل بحياة الفلاح بأغنية هي من فيلم يوم سعيد، والفيلسوف ينال من أم كلثوم بأغنية عن الحب والأمل. يطرح علينا هذا الأمر سؤالاً مهماً، هل من الحكمة أن نتخذ من الفن المتعلق بالحب والحزن والفرح والحياة والجمال سواء كان الفن موسيقى وأغنية، أو شعراً ورواية، أو كان فناً تشكيلياً من نحت ورسم، موقفاً أيديولوجياً؟
الجواب لا. فالقيمة الجمالية قيمة جمالية تتجاوز المكان والزمان. وهذا الذي يفسر خلود الفن بأشكاله المتعددة.
غير أن الفن الذي يصدر عن وظيفة أيديولوجية سرعان ما يتبخر مع الزمن بعد أن يؤدي وظيفته هذه وتنتهي الواقعة التي أنتجته. فلا أحد الآن يعود إلى تلك الأغاني الأيديولوجية لأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ التي جاءت في المرحلة الناصرية، اللهم إلا عند بقايا الجيل الذي عاصر تلك المرحلة، لأن الواقعة نفسها التي ولدت تلك الأغاني قد انتهت. فيما أغاني الحب التي شدوا بها فإنها ما زالت حاضرة وتستمع إليها الأجيال الجديدة، وآية ذلك لأن تجربة الذوق الموسيقي والحب لا تبلى.
وهذا يعني بأن هناك موقفين يجب أن لا نقع فيهما: الموقف الأيديولوجي من الإبداع الفني من جهة، وتوظيف الفن أيديولوجياً، من جهة ثانية.
ولكن هناك استدراكاً مفاده بأنه في مراحل الكفاح الوطني وتأكيد الانتماء، لا بد من مدّ الإرادة الفاعلة بما يعزز من فاعليتها وينمي لديها الشعور الوطني. وتظل هذه الوظيفة للفن مؤقتة إلا إذا نقلت وقائع الكفاح الوطني إلى المستوى الجمالي الخلّاق.
فلقد خلد بيكاسو واقعة تدمير قرية جورنيكا، الوادعة بعد القصف الألماني لها، بلوحة ما زالت تخلد تلك الواقعة وتفيض عن تاريخ رسمها عام 1937.
وما زال تمثال نهضة مصر لمحمود مختار، الذي أنجزه عام 1928، أحد أجمل المعالم التي تزين القاهرة. وأغنية زهرة المدائن لفيروز أغنية خالدة بخلود القدس في الوجدان. وهكذا.