الفلسطيني والوداع

الوداع تجربة أنطولوجية ذات أثر عميق في النفس ومن النادر أن يمحى، قد يبهت مع الأيام لكنه يظل وشماً على قلب الذات. إنه انتقال الذات من فرح الحضور إلى حزن الغياب، بل الغياب حضور ممض، إنه – أي الغياب لحظة انفصال وتمزق لأنه نوع من الانفصال القسري بينك وبينه. بين ذات تتمنى أن تظل مع من تحب وما تحب، إنه انفصال عن المحبوب، يخلف الانفصال جرح لا يندمل، ممارسة الجراح، هو الوداع طقس من الحزن المليء بالرغبة والأمل.

التلويحة والقبلة والدمعة والعناق، أي حالات أصدق من هذه الحالات، تتحدث بالعناق مع المودع مكاناً كان ام كائناً. مع المكان تعانق بعينيك وروحك تلقي النظرة الأخيرة، ثم تلوح له فأنت مسافر، تعانق بالوداع آخرك وكأنك تقول له: ها أنا اتحد معك إلى نهاية الحياة، ثم تذرف الدمع ويعلن الدمع أنك حزين، إنك لا تخاف من فضيحة الدمع بل على العكس إنك تعلن أمام الجميع: أنا حزين، ثم تلوح بيدك من ذا الذي اخترع التلويحة هذه، التلويحة التي تعلن النهاية، كأني بها تخاطب الريح أيضاً.

أنا لا أكره الوداع أو أحبه، بل اعيشه، أكتب عنه تجربة أليمة واختزنه مشهداً عظيماً من مشاهد ذاتي.

كتبت في ديواني الأول أقول:


كلما همتْ يدي لتلوح بالوداع إليك
انحنت يدي
أي يد تقوى على حمل حزن
بحجم هذا الفضاء.

التلويحة إعلان الحزن أمام الفضاء، لغة اليد حين لا يسعفنا الكلام، إنها الجسد وقد قرر أن يتكلم. قد تعرف في قرارة نفسك أنه الوداع الأخير..ياه..ما هذا الطقس من المأساة. كم عشنا لحظة الوداع وأنا أصلاً كائن مزروع بطقوس الوداع، بكل أنواع الوداع. وللطقس الفلسطيني في الوداع طعم المرارة، فأنت لا تدري ترى متى يكون لقاء آخر.

في عام 1970 ودعت عمتي القادمة من بورين للمرة الأخيرة، بكى والدي حينها ثم بعد سنوات بكى مرة أخرى بشكل حاد حين جاءه خبر وفاتها، ودعها بعد غياب اثنتين وعشرين سنة عنها، وكانت أيام اللقاء قليلة.

ودعت أمي أخاها قبل ذلك عام 1958 وذهب إلى عمّان وظلت تعبر عن حزنها سنوات إلى أن جاءها خبر موته شاباً.

لن انسى ذلك اللقاء الحميم عام 2000 في القاهرة التقينا من كل انحاء الأرض- نحن ثلة من الكتاب والأدباء والمفكرين الفلسطينيين. التقينا في مكان واحد في فندق واحد في قاعة واحدة جميعنا يعرف بعضه بعضاً بالاسم أو بالاسم والكائن.

هذا اللاجئ القادم من الشام وذاك من لبنان وآخر من الأردن ورابع من أسبانيا وخامس من السويد وسادس من لندن وسابع من فلسطين المحتلة عام 48 وثامن من الضفة وتاسع من غزة. إنها المفاجآت الجميلة، عندما تسمع بشخص وتحبه وتراه أمامك، لقد قامت بين الفلسطينيين علاقات حميمة جداً مليئة بفرح اللقاء.

كان من بين الحضور والمشاركين بالمؤتمر المناضل – الإنسان محمد بركة، كم كان هذا الشخص الذكي ذا قلب نضر، وعاطفة نقية جياشة، لقد قدم ورقة حول تجربة الفلسطيني في الحفاظ على هويته وهو تحت الاحتلال ومحاولات تذويب هذه الهوية عبر”الأسرلة” وقتل الفلسطيني داخل الخط الأخضر إسرائيلياً، كانت ورقة تتضوع أدباً، وحين انتهى المؤتمر وراح كل واحد منا يرتب حقائبه للرحيل والعودة من حيث أتى ساد المؤتمر جو من الحزن والكآبة حين غادرنا عانقت محمد بركة فقال لي بحزن:

يا أخي أحمد والله انتو عم تعذبونا، ما أن نفرح باللقاء بكم ونسعد حتى تلوحوا لنا بالوداع، إنه لأمر صعب علينا.

منذ عام الفين لم ألتق محمد بركة ولن أنسى أبداً لحظة الوداع وكلما شاهدت محمد بركة على شاشة التلفزيون ضج بي الحنين إليه، محمد بركة أيها المتجذر في أرض فلسطين أحبك ..

وداع فلسطين معذب حقاً..

فهنا أنا اغادر المكان أولاً، المكان الذي لم أرتو بعد منه، أودع بيتي-تخيل-أودع بيتي الذي لا تسكنه إلا الريح. أبوابه الخشبية القديمة مشرعة تطل على الكون أودع ذنابة والقلعة أودع طولكرم وشوفة وكفر اللبد ودير استيا وسلفيت وبيت لحم ورام الله.

أودع كل هذه الأماكن التي تمنحني معنى وجودياً جديداً، أحسست أن نيسان استجمع كل بهائه ووقف أمامي بألوانه وقمحه ليعانقني، أحسست أن الأحجار صار لها عيون تنظر إلي متسائلة إلى أين أنت راحل. أحسست أن البيت يعاتبني: أبعد كل هذا الانتظار راحل أنت؟.

أحسست أن قبر جدي الأقدم في أسفل قلعة البرقاوي في شوفه الشيخ ناصر البرقاوي يهم بالوقوف ليخاطبني: عدُ إلى شوفه بيتك الأول.

ياه.. كيف أغادر رام الله، رام الله منحتني من الحب ما دخل أعظمي.. كيف سألوح لبيرزيت وأريحا. إنها ليلة الوداع حيث يُلبس الليُل الوداعَ ثيابه السوداء ويضعك في حضرة الغياب المؤلم.

عبد الكريم البرغوثي يحضر لي زجاجة من زيت الزيتون، زعل أبو رقطة يحمل علبة تحتوي على ربطة عنق، عبد السلام تلاوي يحضر الزعتر، إمرأة بهية تحمل لي من د.نايف جراد صحن مطبوع عليه فسيفساء شجرة الحياة من قصر هشام، وإياد البرغوثي يغادر إلى بيروت.

أخرج أنا وعبد الكريم لنودع رام الله، القي نظرات الوداع عليها نحمل من محل علب الزعتر. نعود إلى الفندق مقهى الفندق يعج بالمودعين يبدو أننا لن ننام هذه الليلة. الهواتف لا تنقطع من ذنابة وشوفة ورام الله ونابلس. تستفيق رام الله على صباح صامت، الجميع كأن على رؤوسهم الطير.

عشرات الفلسطينيين اللاجئين صامتون، المودعون صامتون، الوجوه عبوسة أو أشبه، المطعم الذي كان يضج بالأحاديث والأصوات المختلطة هادئ إلى حد الموت.

إنها لحظات ما قبل الوداع، وداع وطن لا تعرف متى تعود إليه، وداع أناس لا تدري متى تلتقي بهم، وتسأل هل أعود مرة أخرى، هل التقي مرة أخرى. كل شيء يبدو كأننا أمام طقس تشييع، إننا نشيع اللحظات الأمتع والأجمل والأشد وقعاً على النفس. باصان يقفان على باب الفندق، الكل ينطوي على تمنع لاشعوري عن الصعود إلى أحد البابين.

اسماعيل تلاوي يدرك صعوبة الموقف، ينادي بكل أدب جم وتهذيب: يا أخوان يا شباب، يا صبايا، نرجوكم الصعود إلى الباصات أمامكم سفر وإجراءات لا حصر لها. ولكن من ذا الذي باستطاعته الصعود إلى الباص وترك صباح رام الله خلفه، أرض فلسطين خلفه، الناس الذين أحبهم خلفه..

عدد المودعين أزداد، صار أكثر من عدد المسافرين، كل واحد منا صار له مودعون، فالأيام الأحد عشر كانت كافية لعقد صداقات وعلاقات حب، إذ بدا الكثير من الصبايا والشباب وماشابه ذلك أن للحب في فلسطين معنىً خاصاً، إذ كل شيء في فلسطين يأخذ معنى الأشياء، الأرض، الصداقة، الحب.

كم كان بودي أن أعود إلى طولكرم لألقي على بيوتنا في طولكرم وذنابة وشوفة وكفر اللبد التحية، تحية الوداع وأقول لها: إلى اللقاء سنلتقي بكل تأكيد وثقة، أتخيل الأبواب الخشبية الآن وقد مسها شيء من الحزن.

أشرد وأستعيد الاماكن، وبي رغبة في البقاء لا تصدق، أسال اسماعيل تلاوي:ماذا لو أني بقيت؟ هل أستطيع أن أبقى ثم أدعو زوجتي وأولادي إلى هنا؟ يبتسم بسمة حسرة وحزن ويقول: تستطيع أن تبقى ولكن الأمر محفوف بالمخاطر، أما عائلتك فالأمر مستحيل.

أزرع الخطى جيئة وذهاباً حول الباص.

المشهد جد مؤثر: لم أشاهد حالاً في حياتي كهذه الحال. الشباب يجهشون بالبكاء، وعناق الشباب والصبايا تجاوز الحدود وتحرر من العيون المندهشة.

لم يعد الشباب يكترثون بأحد: الدموع تلون العيون باللون الأحمر، بلون الدم، وكلما هم أحد بالصعود إلى الباص عاد أدراجه وراح يحتضن مودعيه.

أودع أنا الآخر والعبرة تجول في عيني وأصعد ويصعدون وتبدأ التلويحات الغاضبة والحزينة والمتمردة. لم يصعد أحدٌ هذه المرة ليحذرنا من اغضاب العدو، لأننا راحلون. يتحرك الباص في طريقه إلى أريحا. صمت، والاعتراف بحقيقة المغادرة رهيب، تأمل، فقدان، كل ما هو على جانبي الطريق يلوح لك بالوداع.

لا أغاني راحت تصدح كما لحظة الذهاب، أو لحظة الخروج من معبر أريحا. ألتفت إلى يميني وشمالي وإلى الخلف وأنظر إلى الأمام الكل شارد ينظر إلى التلال والجبال والقرى الخضراء وإلى الندب القبيحة على وجه فلسطين: المستعمرات.

لم يخالجني أحساس بالزمن، فالطريق لم يعد يعنيني ما إذا كان طويلاً أو قصيراً في الذهاب كنا نتعجل الوصول، وفي الإياب فقدنا الشعور بالوقت.

ها أنا مرة أخرى في أريحا، محال أريحا وسوقها تعج بالحياة، الباعة والشارون والحمالون والأصوات، إنه الشرق الذي لوثته أقدام الغزاة، أنا لا أرى في أريحا إلا أسواق الشام وعمان والقاهرة وحماة وحمص وصيدا والزرقاء وفاس-هنا.

لكن لأريحا مكانة أخرى بحكم جرحها، فلسطين مأساة وجودية كبرى، أريحا مدينة المعبر الذي يتحكم به الغزاة. أفكر بهذا الوصف- الكلمة “المعبر” بعد الرحلة والنوم في أحضان فلسطين، فأكتشف أنها تسمية أيديولوجية-خبيثة. فالمعبر مكان للعبور فقط، تواضع الناس على أن يجعلوا من المعبر مكاناً مؤقتاً، والعابر– هو اسم الفاعل – هو الذي ينتقل من مكان للعبور إلى آخر والعابر هو المؤقت المعبر يشير إلى العابرين، والعابر المؤقت.

ترى هل أريحا معبر للعابرين، أريحا الوطن معبر الوطن الأصلي الوحيد لنا يصير في أيديولوجيا الاحتلال مكاناً للعبور، أتينا من معبر أريحا ونخرج من معبر أريحا، العابرون ” العبرانيون” يقيمون والفلسطينيون يعبرون.

يسير الباص، ويتجاوز المدينة التي تفتخر بأنها مدينة الحب، مدينة الجبارين نحو أرضها المليئة بالحراس والقتلة.

يتوقف الباصان في مكان قبل الحدود بين شرق الأردن وفلسطين حيث تنزل الحقائب إلى شاحنة متخصصة بنقلها، كي يصار إلى تفتيشها بدقة على ما يبدو.

نصعد الباص بلا حقائب، عدد من المودعين الذين آثرونا البقاء معنا يودعون بالبكاء والقبل، سيدة في منتصف العمر تلبس حجاباً لم تستطع أن تتمالك نفسها فراحت تبكي وتقبل “الراحلين”.

إنها قُبل الحنان والحزن والغضب، قبل الوداع هذه تدحض أيديولوجيا الزنا والحرام. ندخل أرض المعبر المدخل إلى شرق الأردن، ننتبه إلى بعض جنود العدو على مقربة من دشم مبنية على رؤوسهم تلال. علم العدو مرفوع عليها، علم العدو المعبّر عن الزيف المطلق كما هو الكيان نفسه، يعبر عن الاحتلال بكل قبحه.

علم يشير إلى ضفتي نهر الأردن، نهر الأردن الذي تعمد فيه المسيح، والذي يسميه أهل البلد”الشريعة” صديق الفلاحين في جنوب سورية، صديق أشجار الرمان هذا النهر نبع الإنسان الأول. يتحول إلى رمز في علم يشير إلى النزوع الاحتلالي الاجلائي. النجمة السداسية –نجمة الشرق الآرامي- العربي تتحول إلى رمز ملكية صهيونية. كل ما في العلم اليهودي- الصهيوني مسروق كما الوطن..

نصل البوابات، حقائبنا مرمية كيفما أتفق على الأرض، كل منا يفتش عن حقيبته، وندخل مكان اجراءات الخروج. كان المشهد مضحكاً مبكياً معاً، فالكوميديا تختلط بالتراجيديا لتشكل دراما الخروج بكل سخريتها.

أي مشهد مضحك، ذلك الذي تم بالنسبة إلى الأطفال، تحدق الجالسة خلف الزجاج في جواز السفر، وتنظر كي ترى صاحبه لكنها لا تستطيع ذلك، لأن صاحب الجواز أو صاحبته طفل صغير أو طفلة صغيرة، لا تزيد أعمارهم عن عشر سنوات أو أكثر بقليل أو أقل.

كان أحد الشباب يحمل الطفل أو الطفلة إلى الأعلى لتتأكد الموظفة من أن الطفلة هي هي أو الطفل هو هو الذي في الصورة. لم ترتسم على وجه الموظفة أية علائم لدى رؤية الأطفال، إنها تعمل بوصفها آلة عنصرية فقط. من أطرف الأمور وأكثرها تعبيراً ما جرى مع الطفلة “س” لم أعد أذكر اسمها.

إنها جالسة وحدها على مقعد خشبي خارج الواقفين بالدور، تلبس”شورتاً” وبلوزاً، وتلهو برجليها المرتفعتين عن الأرض لصغر سنها.

اقتربت منها متسأئلاً: شو يا عمو مالك، أشارت بحركات من قسمات وجهها”أن لا أدري”.

سألت مسؤولة الفرقة لماذا هذه الطفلة جالسة وحدها بعيداً عن الآخرين- حيث يبدو الجلوس نوعاً من العزل.

- لا ندري.. كلما مرت من جهاز العبور رن جرس الجهاز ليشير إلى شيء معدني.

ولا ندري ما العمل ونحن بانتظار شخص آتٍ لتفتيشها، طفلة بكل معنى الكلمة تزرع الخوف في نفوس العاملين في الحدود، ما الذي يمكن أن تخفيه هذه الطفلة.

ثم جاءت المفتشة وتبين أن الطفلة قد احتفظت بالمفتاح المغناطيسي لغرفتها في الفندق مع زميلاتها- وهو عبارة عن كرت ممغنط، رغبة منها أن تحتفظ بذكرى من فلسطين.

وفي الوقت الذي استغرق الدخول إلى فلسطين عبر المعبر ساعات عشر تقريباً لم يستغرق الخروج أكثر من الوقت الضروري للخطأ. ها نحن مرة أخرى خارج فلسطين، إنها رحلة رحيل جديد مثقلة بالهم والحزن.

عدت إلى دمشق عشقي المطلق، لكني أعترف بأمر عشته ولم أكن أشعر به قبل ذهابي إلى فلسطين. لأول مرة أشعر بأن العيش داخل فلسطين- هو العيش داخل وطن، لأول مرة أعرف ماذا يعني الامتلاء بالمكان وطناً للعيش. لم يكن الاحتلال بقادرٍ على أن يمنعني من هذا الشعور.. أجل أنا في وطن محتل ومسروق وكل ما يمكن أن يقال لكنه وطني وليس وطن الآخرين.

كنت وأنا انتقل من رام الله إلى طولكرم من طوباس إلى ذنابة من نابلس إلى شوفة، من دير غساني إلى بيرزيت.. أعيش تجربة الحضور المطلق في المكان كل هذا الوطن لي، والعدو عابر جداً. لم يكن المحتل ليعني لي إلا شيئاً واحداً: أن هناك لصاً سرقني ويحمل سلاحاً ضدي وأن هناك مجموعة من المجرمين يساعدون على الاحتفاظ بما سرق، وأنه لا محال راحل عن وطني.

لأول مرة أشعر وأنا أشارك في اعتصام بلعين أني على أرض صلبة وهي محتلة. كنت ممتلئاً دائماً بفلسطينيتي بوصفي مولوداً من رحم النكبة وبوصفها- أي فلسطين-قضية لا تسمح لي أبداً بأن أعيش خارج حلم العودة، لكني الآن وقد عشت تجربة الحضور فيها لم أعد قادراً على تخيل الابتعاد عنها.

ودمشق لم تغضب مني يوماً بسبب فلسطينيتي، بل على الضد من ذلك كلما أعلنتها أمامها احبتني أكثر . بيتي الذي أملك في حيّ المزة فقد المسكين قيمة امتلاكه. بل أحسست بأنه بيت عابر جداً.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات