ما إن أنهيت قراءة كتاب جاك دريدا “تاريخ الكذب”، ترجمة رشيد بازي، حتى تساءلت: من أين تأتي أهمية كتابٍ لم يقل جديداً في الكذب ويُحتفل به من كثيرين؟ هل احتفال بعض مثقفينا بالكتاب وعرضه لا يعدو أن يكون خضوعا لإغراء اسم المؤلف؟ أم هو نوع من تحقيق شهوة حضور عن طريق الحديث عن فيلسوف ممتلئ بالحضور؟ أم هم صادقون فعلاً فيما ذهبوا إليه في تقريع الكتاب وصاحبه؟ والحالات الثلاث قد تكون هي التي تقف وراء الاحتفال بكتاب ليس قميناً بالاحتفال به.
إن تجريد تاريخ للكذب أمر محال، ولهذا جاء كتاب تاريخ الكذب بلا تاريخ. لا لأن دريدا عاجز عن الكتابة، بل لأن الكتابة في الكذب، بوصفها ظاهرة قديمة مذمومة، كتب حولها من الفلاسفة وعلماء النفس والأدباء ما يضع أي كتابة جديدة حولها في حالة العجز.
أجل لا يمكن لكاتب أن يتناول الكذب ناجياً من التكرار، ولكن إغناء المكتوب أمر ممكن، وإن كان صعباً.
إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فلماذا نكتب عن الكذب؟ نكتب عنه لسببين:
• تذكير الناس بالكذب، في واقع مليء بالكذب يحملهم على نسيان شره.
• فانتشار ظاهرة الكذب يخلق نوعاً من التلاؤم مع هذا الشر، دون ردود فعل مناهضة له.
والسبب الثاني: إنها المرة الأولى في التاريخ الذي يتوافر فيها للكذب وسائل انتشار عبر هذا الاختراع العظيم الذي اسمه النت، وما نتج عنه من وسائل متنوعة للتواصل والنشر.
وعندي، فإن الكتابة عن الكذب دون التوقف عند الأكاذيب المتعينة ونماذج من الكذابين وأصنافهم أمر محال. صحيح بأن الكذب ظاهرة قديمة، لكن العصور المتعاقبة تمنح الكذب خصوصيته. فالكذب في شروط الحياة المعقدة مختلف عنه في شروط الحياة البسيطة. فالمعنى الكلي للكذب لا وجود له إلا في واقعة الكذب الخاصة. ووقائع الكذب هي التعينات الجزئية لهذا المفهوم.
إن الناس يكذبون لأسباب لا تحصى، عن سابق إرادة وتصميم على الآخر وهم يعرفون بأنهم يكذبون. لكن أكثر عالم يضج بالكذب هو عالم المثقفين من كل الأنواع. فلقد توافرت لأكاذيبهم كل القنوات التي تسمح بنشرها للناس. فالكذب عندهم مرتبط ارتباطاً صميمياً مع شهوة الحضور. وهو بهذا المعنى هو حالة وجودية. ولكن مجتمع الكذب ليس وقفاً على المثقفين، وإنما انتشر في عالم ما قبل الديمقراطية انتشار النار في الهشيم.
لننطلق من البسيط والمتميز بالمعنى الديكارتي للكلمة قائلين: الكذب، قولاً وعملاً، خلق وقائع عبر اللغة والسلوك لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة، وبعقل واعٍ بأن هذا الخلق للوقائع هو كذب. فالكاذب هو من يعلم بأنه يكذب، والذي يكذب دون أن يدري بأنه يكذب، ليس كذاباً، إنه مريض. هذا كلام لا خلاف عليه، ويعرفه القاصي والداني.
لكن دعوني أضرب لكم الأمثلة التالية التي تدل على أنطولوجية الكذب لنحللها ونكشف فيها عن المعنى.
المثال الأول: كانت هناك باخرة تقلع من لينينغراد في رحلة ترفيهية إلى موانئ أوروبية ثم تعود إلى ميناء لينينغراد. وكانت تكاليف الرحلة زهيدة جداً لا تتجاوز مئة وخمسين روبلاً، وكانت هذه الرحلة طبعاً وقفاً على الطلبة الأجانب فقط. فالسوفييتي ممنوع من السفر ذلك الزمان.
ومن سوء حظي فإن وثيقة سفري الفلسطينية لم تكن تؤهلني للخروج في هذه الرحلة في تلك الأيام من سبعينات القرن العشرين.
عزم زميلي السوري الاشتراك في هذه الرحلة، وهذا كان يحتاج إلى موافقة المشرف على منحه فيزا للسفر. وجرى أمامي الحوار التالي بين طالب الدكتوراه ومشرفة:
الطالب: رفيق أحتاج منك لموافقة على سفري لسوريا، فلقد بُلغت بأني يجب أن أذهب إلى سوريا لأن الوطن في خطر الحرب، وقد لا أعود لإكمال دراستي.
المشرف: لا يمكن يا رفيق، هناك كثير غيرك قادرون على الحرب، أنت جئت لتدرس والوطن بحاجتك كادراً متعلماً. (وكادت الدمعة تفر من عين المشرف الذي عاصر الحرب العالمية الثانية).
الطالب: لا رفيق لا أستطيع أن أرفض. وربما لن يحصل شيء وأعود.
ولَم تفلح محاولة المشرف في إقناع الطالب للعدول عن الذهاب إلى سوريا للدفاع عن الوطن.
حصل على موافقة المشرف، وقضى رحلة مليئة بأسباب المتعة، وعاد بعد أن أنهى حربه المقدسة دفاعاً عن الوطن في الباخرة. وحين سألته لماذا كذبت عليه أجاب: أتريدني أن أظهر أمامه بأني شخص يسعى إلى اللهو عبر السفر المكلف.
لو أن هذا الطالب قال الحقيقة للمشرف في أسباب طلبه الموافقة، فإنه لن يترتب على قول الحقيقة أيّ آثار سلبية عليه. لكنه كذب كي يبدو وجوده لمشرفه في صورة الذي يضحي من أجل الوطن والملتزم بنداء الوطن. وهي صورة محمودة سوفياتياً.
إنه عبر الكذب قرر أن يزيف وجوده الحقيقي ويخفيه طمعاً برضا المشرف.
المثال الثاني: سافر مدرسنا في الفلسفة في الجامعة في عام 1972 أو 1973 لم أذكر بدقة، إلى الجزائر عضواً في وفد اتحاد شبيبة الثورة. وبعد عودته من الجزائر، ذهبنا، نحن ثلة من طلابه آنذاك، لزيارته وتهنئته بالعودة.
وحين عبّرنا عن سعادتنا بعودته بالسلامة، أجابنا: نعم عدت بالسلامة وكان يمكن أن أموت وأورد لنا القصة التالية التي حدثت معه:
كانت العودة من الجزائر عن طريق باريس، وحيث أن الطائرة ستقلع إلى دمشق في مساء اليوم التالي، ذهبنا نحن الوفد إلى كابارية في شارع الشانزليزيه. وقضينا السهرة فيه، وشعر أعضاء الوفد بالتعب وقرروا العودة إلى الفندق، أما أنا فآثرت البقاء وحدي. في ساعة متأخرة من الليل خرجت من الكابرية ولحق بي ثلاثة شبان فاستوقفوني سائلين: ألست أنت المفكر العربي الكبير فلان. أجبت: نعم، فقالوا لي: نحن من تونس ومن أشد المعجبين بك وبفكرك، نحن ندعوك لنكمل السهرة عندنا في البيت. فأجبتُ: آسف أنا تعبان ويجب أن أذهب إلى الفندق. فقالوا: لا ستذهب معنا شئت أم أبيت. قلت لهم هذه دعوة أم اختطاف؟ فأجابوا نحن يهود وما عليك إلا أن تمتثل لما نريد. ضربت أول شخص بقبضتي، والتقطت حجراً كبيراً مرمياً في شارع الشانزليزيه وضربت به الشخص الثاني، وفي هذه الأثناء كانت سيارة شرطة في طريقها إلينا، فهرب الشبان الثلاثة، لكن الشرطة لم تلحق بهم، ويبدو بأن الشرطة كانت متآمرة معهم. ثم عدت إلى الفندق.
هل كان هذا المعلم يحتاج إلى كذبة غير معقولة لتأكيد حضوره؟ طبعاً لا من الناحية المنطقية. لكنه أراد أن يؤكد وجوده بأنه مشهور حتى بالنسبة إلى العدو، ومراقب. وأنه مطلوب التخلص منه لما يشكله من خطر على إسرائيل.
وتآمر الشرطة مع الثلاثة الذين تغلب عليهم بقوته العضلية، دلالة على مكانته العالمية.
الكذب هنا ناتج عن شهوة الحضور المبالغ بها، والتي تحمل الشخص على الكذب.
لقد اختلق واقعة مرذولة عن شخص يكرهه، وذلك للإساءة إليه أمام الآخرين، وراح الناس يتداولون الواقعة على أنها حصلت. لقد كذبَ الشخص هنا بدافع إيذاء الآخر.
كان صديق لنا يكره حافظ الأسد كرهاً شديداً، ويملك محلاً واسعاً لبيع الموبيليا،وكنت جالساً عنده. في يوم ما يسمى بالاستفتاء على الرئيس، دخل عليه الأمن وسألوه أين صور “السيد الرئيس”. فواجهات المحل خالية من صوره.
أجابهم بحماس مصطنع، لو أنكم تأخرتم قليلاً لرأيتم الصور ملصقة على الواجهة، أرسلت الشغيل لجلب الصور ولَم يأت بعد، خلال ربع ساعة عودوا وسترون. وبسرعة بعث الشغيل لجلب الصور.
لقد خاف من قول الحقيقة، خاف أن يقول لهم بأنه يكره الرئيس وصوره. فقول الحقيقة من شأنه أن يجر عليه البلاء، كذب طمعاً بالأمان.
في الحياة اليومية آلاف قصص الكذب للتخلص من إحراج، أو موقف، أو التملص من موعد، أو تبرير خطأ على أنه غير مقصود.
إن للصدق في التعبير عن موقف الذات علانية تبعات سلبية من أولئك الذين في الخارج ولا يستهويهم صدقك. ولكن لكذب الذات إرضاءً لمن هم في الخارج تبعات من الذات نفسها أشد قساوة ألف مرة. فها أنت تبدو، في هذه الحالة، أمام ذاتك شخصاً كذاباً مهما حاولت أن تجد التبرير العملي لكذبك.
إنني هنا لا أتحدث عن ترديد أكاذيب السلطة أو الحزب أو الجماعة التي ينتمي إليها الشخص الذي يردد الأكاذيب، فربما اعتقد بأن أكاذيب سلطته أو حزبه صادقة. فأنا أعتقد بأن الأقوال-الأكاذيب التي تنطوي عليها خطابات حسن نصرالله، في شأن سوريا، ودعمه الطائفي المشين للجماعة الحاكمة، ربما كانت عند الكثيرين من أنصاره أقوالا صادقة، و قس على ذلك، لكن نصرالله يعرف بأنه يكذب. لكني أتحدث عن صدق الذات المفردة وكذبها. الذات التي لا تنتظم في جماعة أيديولوجية حاكمة أو غير حاكمة.
لا شك بأن الشخص لا يكذب، إلا لأن الكذب يحقق له مصلحة فردية. شأنه شأن الجماعة التي تكذب. لكن الفرق بين كذب الفرد وكذب الجماعة يقوم في معنى الأخلاق وقيمة الصدق.
فالجماعة التي تكذب على لسان قادتها، كما هو حال المتحدثين باسم السلطات والدول والأحزاب، تنظر إلى الأكاذيب التي تطلقها في العلن على أنها نوع من وسائل المكر والخداع الضروري لتحقيق الأهداف التي تعتبرها أهدافاً عامة. فأميركا، أيام بوش الأبن، كانت تعرف بأن العراق لا يملك سلاحاً ذرياً، ولكنها كانت تصر على ذلك لتبرير تدمير العراق بحرب لا تبقي ولا تذر. وباستطاعة وزير خارجية أميركا آن ذاك كولن باول أن يعلن دون أن يحتقر نفسه، بأنه كان يكذب من أجل تحقيق مصالح أميركا. أي إن مصلحة أميركا هي المبرر الأخلاقي الذي حمله على الكذب. فالسلطة الأميركية هي التي شاءت الكذب وليس الفرد كولن باول. كذب كهذا لا يخلق شعوراً بالخجل لدى الكاذب.
أعود للفرد الكذاب، الفرد الذي ليس تعبيراً عن سلطة كذابة. الأفراد الأربعة الذين كذبوا مختلفون في أسباب الكذب، الأول: كذب كي يعطي صورة للمشرف أيديولوجية تستهويه بوصفه، أي المشرف، سوفياتياً شيوعياً، وكان الكذاب هذا قد أشاع بأن منبته الطبقي بروليتاري. وهذه صفة محمودة في الدول الاشتراكية.
ها هو الآن: الطالب، ابن الطبقة العاملة، الملتزم بنداء الوطن، المضحي بذاته من أجل الوطن.
الثاني:هاجسه الأساسي شهوة الحضور والشهرة التي تتجاوز حدود الوطن، ويلقى العداء من الصهيونية واليهود. أي إنه ليس شخصاً مشهوراً فحسب، بل وخطير على الأعداء.
الفرق بين الكذاب الأول والكذاب الثاني: الأول اختلق واقعة معقولة وقابلة للتصديق. فسوريا خارجة لتوها من حرب تشرين، وما زالت إمكانية الحرب قائمة بالنسبة إلى السوفييتي.
الثاني اخترع واقعة غير معقولة البته: الحادثة وقعت في أشهر شارع في باريس، ويمكن أن يحتوي الشارع على كباريه، ثلاثة شبان يتكلمون العربية يلحقون بالمفكر في هذا الشارع الشهير، ويكشفون عن هويتهم اليهودية له.
يتغلب عليهم بقوته،لا سيما وأنه استخدم حجراً كبيراً مرمياً في شارع الشانزيليزيه. يهربون، والشرطة لا تحرك ساكناً لأنها على ما يبدو متآمرة مع الجناة.
الكذاب الأول كذب محترِمَاً عقل المشرف، ولَم يكتشف المشرف كذبته. الكذاب الثاني كذب دون أي احترام لملكاتنا العقلية. وكان نبيل عطوة وأحمد برقاوي ومحفوض قشوة من الطلبة النجباء. الكذبة الأولى صدقها المشرف. فيما نحن عرفنا الكذبة مباشرة بسبب لا معقوليتها، وكانت نتائجها سيئة على الكذاب.
الكذاب الثالث الذي لفق واقعة تسيء للآخر، لا يسعى من وراء كذبته أمراً متعلقاً بصورته وبوجوده. فكذبته لا تعود عليه بالنفع أبداً، إنما تحدث الضرر بالآخر. وهذا كذب عدواني بامتياز. الدافع للكذب هو الاعتداء والكره والثأر.
الكذاب الرابع: ما كان يمكن أن يصدق أبداً، فالصدق قد يودي به إلى السجن والموت فيه. إذن هو حُمل على الكذب، وهو في وعيه لذاته لم يمارس الكذب. بل مارس حيلة للنجاة من جهاز أمن متوحش. لقد ضحكنا بعد ذهابهم وسخرنا منهم ومن الاستفتاء وصاحبه. هذا النوع من الكذب يُسمى بالعربية التقية.
هل الكذب ثقافة
يكتسب الفرد عموماً قيمه من التربية والتعلم. وكل الأطفال يتلقون ما مفاده بأن الصدق خير والكذب شر. وليس هناك على ظهر الأرض كائن بشري كاذب بالمطلق أو صادق بالمطلق. فالخوف قد يقود شخصاً ما ينطوي على احترام قيمة الصدق احتراماً كبيراً على الكذب. كما يمكن لشخص ما،لا تحتل قيمة الصدق في عالم قيمه مكانة كبيرة، أن يصدق في شروط تستدعي الصدق.
ولأن البشر يعرفون من خبرتهم العملية بأن الإنسان الفرد يصدق ويكذب فإن الثقة بقول الآخر وسلوكه ليست مطلقة، وبخاصة في المجتمعات التي لا تحضر فيها الحرية بوصفها نمط حياة.
هل الكذب من قبيل الجنس الذي تنطوي تحته فصول نوعية، كالخديعة والإفك والافتراء والغش والاحتيال والتضليل والتدجيل والمداهنة والنفاق والتزييف والتزوير والتقية.
فالخديعة كذب على آخر يعود بالنفع المادي على الخادع. (أنا لا أتحدث هنا عن الخديعة العسكرية للجيوش بل عن الفرد في الحياة)، قالت: خدعني، وعدني بالزواج، وبعد أن قضى مني وطره، ذهب واختفى. وقس على ذلك حالات الغش في البيع والشراء، والدجل هو تمويه وإخفاء حقيقة الشيء والموقف. والمداهنة إظهار عكس ما تضمر، والإفك هو الخبر الكاذب عن سابق إصرار. والافتراء هو العظيم من الكذب في اختراع قضية لا أصل لها كما يقول السيوطي.
فيما تنفرد التقية في الثقافة الدينية لدى بعض طوائف المسلمين بمكانة خاصة، بل هي كذب محمود.
التقية بوصفها كذباً محموداً لم تعد خيارًا فردياً، بل مبدأ إيمانياً وركناً من أركان العقيدة الشيعية مثلاً.
فالسنة يجيزون التقية مع الكافر فقط اتقاء شره مستندين إلى الآية “(لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) آل عمران/28.
فيما الشيعة يعتبرونها ركناً من أركان الإسلام كالصلاة. وهذا مبحث يطول شرحه.
فأنواع الكذب إذن كثيرة جداً. وذات علاقة بثقافة كل مجتمع من المجتمعات. لا أدري إذا كانت ثقافة الغرب تحتوي على مرادف مثلاً لمفهوم التقية في بلاد المسلمين، ولكن العصور الوسطى الغربية التي شهدت اضطهاد الكنيسة للعلماء والفلاسفة قد أجبرت الكثيرين منهم على ممارسة التقية، بمن فيهم غاليلي وقصته المشهورة.
والتقية مفهوم مختلف عن مفهوم النفاق. فالمجتمعات ذات السلط المستبدة، من كل أنواع السلط، يكثر فيها الكذب من فصل النفاق. ويصبح النفاق حالة وجودية معترف بها اجتماعيا دون إحساس بالذنب، ودون تذمر مجتمعي. النفاق بوصفة تناقضاً عند الفرد بين الباطن والظاهر إرضاءً للمنافق له أو لمن حوله من التابعين.
فالمتنبي الذي خاطب كافوراً قائلاً
وإن مديح الناس حق وباطل**** ومدحك حق ليس فيه كذاب.
هو نفسه الذي هجا كافور هجاء، قل مثيله في العربية، وحسب المرء أن يعود إلى قصيدته التي مطلعها عيد بأية حال عدت يا عيد ليرى الفرق بين المديح الكاذب المنافق والهجاء الصادق. وكل هجاء صدق.
سأتوقف عند هذا النمط من الكذب، لما له من خطورة على القيم والعلاقات المعشرية.
أجل النفاق أشد أنواع الكذب ضرراً على الآخر وعلى القيم. وقد مضى على ولادة النفاق زمن طويل، زمان ظهور القوة والضعف الإنساني، ظهور السلطة والمتسلط عليهم، ظهور الأغنياء والفقراء، ظهور الأقوى والقوي، ولا يزال مستمراً حتى هذه اللحظة من حياتنا الراهنة، دون أن تبرأ البشرية منه. وعندي أنه يندر أن نعثر على كائن بشري لم يمارس النفاق، سواء كانت ممارسته صادرة عن رغبة منه، أم كان محمولاً عليها.
والنفاق هو الصورة الأقبح لانحطاط الكرامة الإنسانية، كرامة الفرد، والوسيلة الأسوأ لنيل فضلات ثروة وقوة وجاه.
والمشكلة أنك لن تجد أحداً من الناس يمتدح النفاق، بل على العكس من ذلك، لن تجد أحداً إلا ويذمه، ومع ذلك، كيف لمن يذم النفاق أن يمارسه؟
والنفاق بالتعريف، كذب الإنسان على الآخر بظاهر من السلوك القولي والعملي، يناقض باطنه. حيث تبقى الأحكام الحقيقية قارة في باطن النفس، وتظهر الأحكام الكاذبة على اللسان والسلوك. ومقصود النفاق خداع الآخر، إما طمعاً في منفعة، أو خوفاً على منفعة. إذن، يستمد النفاق قوة استمراره من الطمع. لن أسرد كل أشكال النفاق، فهذا أمر يطول ذكره، حسبي أن أكشف عن أخطر أنواعه ألا وهو النفاق للسلطة الاستبدادية الحاكمة، أقول هو أخطر الأنواع، لأن فيه تدميراً للأوطان وللبلاد والعباد، وتحطيماً لقيم المجتمع، إذا ما تحول النفاق إلى عادة لا تنجب لدى الآخرين دهشة أو ذماً.
والمنافق هو بدقة ما جاء في حديث الرسول الكريم “آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ”وكأنه يتحدث عن المتنبي في علاقته بكافور.
والنفاق للسلطة المستبدة على نوعين: نفاق بدافع الحصول على فضلات سلطة مادية أو معنوية، والتي تشق الدرب أمام من حصل عليها للفساد والحصول على الثروة، والحفاظ على فضلات السلطة والخوف عليها من الضياع. ونفاق يكون خوفاً من السلطة وخطرها العصي على التوقّع، من سجن وتشليح ثروة وقتل. والعلاقة بين السلطة المستبدة واكتساب الثروة فساداً علاقة ترابطية. وفي كل أحوال النفاق يكون هناك الخفي والعلني. وهذا يعني الصادق الخفي والكاذب العلني. فالذات هنا تعيش اغتراباً إرادياً وتناقضاً بين قوتين قوة الصدق وقوة المنفعة، فتنتصر قوة المنفعة دون أن تلغي من الأعماق قوة الصدق التي يحتفظ بها المنافق، وقد تظهر في أيّ شرط مناسب. وامتثالاً لطريقة العرض التي اخترتها سأضرب لكم المثال التالي:
كان هناك دكتور في معهد العلوم السياسية في دمشق، المعهد الذي أصبح كلية. تعرفت عليه مصادفة في معهد الخدمة الاجتماعية، وكان بعثياً من عائلة بعثية قديمة في دير الزور، ولا أعرف الأسباب التي جعلته محباً لي إلى درجة الصداقة، وهي التي سمحت له أن يعبّر لي عن كرهه للجماعة الحاكمة التي يدافع عنها في الظاهر. وكنت أسأله: كيف لك أن تذهب إلى منتديات المجتمع المدني مدافعاً عن النظام، وأنت أكثر كرهاً للنظام منهم. فمنتديات المجتمع المدني تكره البنية الاستبدادية للنظام، بينما أنت تكره الطائفة العلوية.
فأجابني بلغته الديرية (يا ابن عمي أريد أن أصير محافظاً أو وزيراً أو عضواً في مجلس الشعب). ففي الوقت الذي كنت بالنسبة إليه واحة صدقه، كان أفراد النظام مستنقع كذبه. ولو لم يغادر هذا الشخص الحياة لما ذكرت الواقعة.
وحصل أن كنّا معاً في القاهرة، ونسكن في شقة واحدة، وراح يسرد لي كل أحقاده، وفي اليوم الذي مات فيه حافظ الأسد، أيقظته من غفوته في الظهيرة لأخبره بموت حافظ. قفز من السرير سعيداً وراح يصفق ويرقص.
ثم غسل وجهه وراح يلبس بزته وربط عنقه، وحين سألته إلى أين: قهقه وقال:
يجب أن أكون في استقبال المعزين في السفارة السورية، وأمثل دور الحزين.
النفاق هنا يتعين بإظهار الولاء المطلق للسلطة المستبدة، مدحاً بها وقدحاً بمعارضيها، دفاعاً عنها وهجوماً على مناهضيها، تذللاً للفاعلين فيها، وتنمراً على المفعولين، خنوعاً لخطابها ونقداً وذماً لخطاب مناقضيها. فضلاً عن هذا وذاك، فإن المنافق هنا يمتثل لأوامرها من دون سؤال أو تفكير. وإن ما يظهره المنافق من ولاء للسلطة هو في حقيقته ولاء لنفسه ولأطماعها ومنافعها فقط. إنه في أعماقه يدرك وضاعة سلطة الاستبداد ووضاعته، فيعيش تناقضاً بين مصلحته وحبه لفضلات السلطة، وما تقدم له من ثروة، ووعيه الحقيقي بالسلطة. والسلطة المستبدة بدورها غالباً ما تكون لها معرفة بأكثر المنافقين، وتغدق على المنافق ما يريد، لقاء الوظيفة التي يؤديها لها، وإن رأت أنه كف عن أن يكون مفيداً، فإما أن تصرفه صرفاً بسلام، إذا لم يكن منه ضرر في المستقبل، أو تصرفه صرفاً عنيفا، بكشف فضائحه لإدانته، إذا ما ظنت بأنه قد يشكل خطراً ما عليها.
أما النفاق خوفاً، فهو النفاق المحمول عليه الفرد قمعاً وأماناً من شر السلطة المستبدة.
تظهر أشكال النفاق هذه في العمل، مثلاً، والخوف من المخبرين المنتشرين داخل مؤسسات الدولة. فالخوف يحمل الأفراد والجماعات على إظهار الولاء أمام من يعتقدون بأنهم مخبرون. وتمثل الاحتفالات المتعلقة بالمستبد ونظامه الحقل الذي يظهر فيه النفاق خوفاً وتزلفاً. فالاحتفالات هذه مناسبة للمراقبة. فيجب أن يقوم رئيس المؤسسة بملء حيطانها بصور المستبد بكل أحواله، ويجب أن يكون على رأس العاملين في مؤسسته في الاشتراك بما يسمى بالمسيرة، وأغلب الذين يهتفون بحياة المستبد يحتقرونه ويسخرون منه.
فإذا كان النفاق للمستبد في الحالة الأولى، التي يكون فيها النفاق مقصوداً لتحقيق منفعة أو الحفاظ عليها، أخلاقا وضيعة طوعية، فإن النفاق هنا، بوصفه نفاقاً محمولاً عليه الفرد، يولّد حقداً دفيناً لدى المنافق على المُنَافق له، ويولّد أخلاق التمرد الذي ينتظر الشروط الضرورية لانفجاره.
إن مبدأ السلطة المستبدة الذي يتحكم في علاقاتها مع الإنسان هو: نافق ووافق أو فارق. لكن هناك نوع من الأكاذيب ذات قوة وتحمل كثيرين على تصديقها واستمرار انتقالها وتداولها. من أين تستمد الأكذوبة قوة التصديق؟
دعوني من الأكاذيب المألوفة في حياة الناس اليومية، وهي كثيرة وأسبابها عدة، كي أتحدث عن الأكذوبات الفاقعة بما هي أخبار عن الشخص والمجتمعات.
هناك جمهور من الكائنات هي في حد ذاتها أكذوبات، بعضها أكذوبات مكشوفة وهذه الكائنات لا تشكل خطورة على الوعي، وتصبح موضوعاً للسخرية والتندر. وبعضها الآخر أكذوبات مستترة، ولم يستطع الوعي العام أن يكشفها، فتمارس ضررها على الناس من خلال تصديقهم لها.
وتتحول، لكي تحافظ على ظهورها الزائف، إلى أكذوبات كذابة. فهي تكذب دون أن يرف لها جفن. وتختلق من القصص ما لا يخطر على بال. وتسرق بخبرة عالية من النصوص والأفكار وتنسبها لذاتها.
ولكن كيف تنتشر هذه الكائنات الأكذوبة وأكذوباتها إلى درجة يصدقها الناس وتسكن في عقولهم إلى الحد الذي يكون فيه نقل جبل من مكانه أسهل من اقتلاع الأكذوبة من عقول الناس؟
هناك ثلاثة عناصر تجتمع لتجعل أكذوبات الكائنات الكذابة ذات قوة تصديق.
أولاً :حصول الشخص الكذاب على مكانة اجتماعية وتعليمية وثقافية، بحيث لا تقع الشبهة فيه بأنه يمكن أن يكذب. فما يصدر عنه قابل للتصديق بوصفه أهل ثقة، كأن يكون الكاذب أستاذاً جامعياً أو كاتباً أو قاضياً أو شيخاً وهكذا.
فالوعي العامي لا يستطيع أن يكذّب شخصاً ذَا مكانة وحضور.
ثانيا: يجب أن يكون الكاذب محترفاً ومعلماً بالكذب، بل وصار له حضور بفضل الكذب.
ثالثاً: جهل المتلقي بموضوع كذب الكذاب، وغياب الحس النقدي الضروري لامتحان الواقعة المختلقة.
وإذا توافرت هذه الشروط يشرع الجمهور بتناقل الأكذوبة فتنتشر، دون أن يسأل الجمهور عن أصل الكذبة وفصلها، فتمتلك قوة الاستمرار وقوة الصمود أمام الحقيقة، فالأكذوبة-الإشاعة تهزم الحقيقة إلى زمن طويل.
مصدّق الإشاعة جاهل بالإشاعة، بحقيقتها لو أنه يعرف لما صدقها، فمنطق انتشار الإشاعة منطق تأكيدها عند عدد كبير من الناس، صار إجماع الناس عليها معيار صدقها.
والإشاعات السياسية وغير السياسية تنطبق عليها شائعات المدح والقدح، والقصص التي لا أصل لها والقصص المزيدة والمنمقة.
وإذا كانت الإشاعات والأكاذيب هذه حالها داخل مجتمع من المجتمعات، ما بالك بحال الأكاذيب التي تشاع عن الأمم وأخلاقها وعاداتها، فأيّ قوة قادرة على دحضها وتبيان زيفها. وقس على ذلك.
ويبدو لي أن الناس يسعدون بالأكاذيب ويسعدون بتناقلها، وخاصة لدى الذين لا شغل لهم سوى الإشاعات والأكاذيب.
لنفترض بأن الأكذوبة هي خبر صادر عن صاحبه أو من هو قريب منه. والتحقق من الخبر، وبخاصة الآن، سهل جداً. فالخبر يجب أن يظهر في وثيقة.
فلو قلت مثلاً بأني أحمل ثلاث شهادات دكتوراه، فشهادات الدكتوراه تصدر بوثيقة. فالوثيقة الآن هي وسيلة تحقق قوية. في غياب الوثيقة يجب ألا أصدق الخبر. حتى الوثيقة يجب التأكد من مصدرها ومعقوليتها وخاصة فيما يتعلق بالأكذوبات التاريخية القديمة.
إن هناك علاقة قوية بين انتشار الأكاذيب وقوة حضورها وغياب العقل النقدي أو ضعفه من جهة، وقوة الانحياز الأيديولوجي عند مصدقي الأكذوبات، الذي بدوره يقضي على الوعي النقدي عند الناس.
كم من الأكذوبات التي ما زال البشر يصدقونها ويسلكون على أساسها دون أن يسألوا مرة واحدة ما إذا كانت هذه الواقعة قد حدثت فعلاً، أو أن هذا الشخص فعلاً هو هو كما قدمته لنا كتب التاريخ، أو كما قدم هو نفسه.
السؤال الأهم الذي تطرحه ظاهرة الكذب على المتأمل به هو: كيف السبيل لدحض الأكذوبات التاريخية التي أصبحت جزءاً من وعي الأغلبية والتي لا ينظر إلى قائلها على أنه كذاب؟
إن الشخص العادي الذي يصدق الأكذوبة ليس كذاباً، لكن الذي ينقل الأكذوبة وهو يعرف بأنها أكذوبة ويقدمها للناس على أنها حقيقة هو الشخص الشرير.