ليس الخامس عشر من أيار ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني،بل هو زمن مستمر معيش واقعياً.في الخامس عشر من أيار تعين الفلسطيني وجوداً مسلوباً من مقوم من مقومات الوجود الضروري ألا وهو الوطن. اللاجئ ليس ماهية وجود، بل صورة نفي للوجود. في الخامس عشر من أيار أعلنت حركة عنصرية سلب الوجود الماهوي عن الفلسطيني، ومنحه حالة الوجود الناقص. لقد فقد الفلسطيني المقوم الأساسي من مقومات الشعب أو الأمة ألا وهو مقوم الأرض. وعملية سلب ما تبقى من هذا المقوم جارية أمام عين الفلسطيني وعين العربي وعيون العالم،
في يوم بداية النكبة المستمرة ليس هناك قول ينطق به الفلسطيني سوى العودة إلى الأرض، إلى مقوم وجوده،سوى القول بكل وسائل القول من صوت الحنجرة إلى صوت الرصاصة: هذه الأرض لي.
النظر إلى قضية فلسطين من زاوية الأرض والعودة لا يعني سوى استمرار الكفاح من أجل معنى الوجود الإنساني لشعب وقد سلب العنصر الضروري لماهيته، الوعي بالهوية المسلوبة تأكيد الوعي بالهوية.، تأكيد الكفاح العملي والنظري لاستعادة منطق التاريخ المسروق.
فحالة سلب العربي الفلسطيني حقه بالوجود الإنساني المتعين بوطنٍ، هو أمام العين الباصرة سلبه أرضه وتاريخه ولغته وطبيعته، حالة هي من الشذوذ بحيث لا نجد مثيلاً لها في عالمنا المعاصر.ويزداد انحراف الحالة عما هو سوي في التاريخ وعما هو مناقض لمنطق الحياة حين يطلب من العربي والفلسطيني صاحب الحق أن يعترف عنوة لغيره بحقه بما سلب.
ويبدو أن الحقيقة في معمعان السياسة الدولية واستمرار العجز العربي قد فقدت وضوحها وتميزها. تقول الحقيقة التي لا يمكن دحضها لا بمنطق السلاح ولا بسلاح المنطق: إن فلسطين أرض لشعب متعين واقعياً هو الشعب العربي الفلسطيني وإن لهذا الشعب أرضاً متعينة جغرافياً هي فلسطين كلها،أرض حية بالإنسان الفلسطيني سلبت من الحقائق التي يستطيع الإنسان تجاهلها يحيا دون أن يأخذها بعين الاعتبار إلا حقيقة الترابط بين الأرض-الوطن. حقيقة الترابط بين الفلسطيني وأرضه هي الحقيقة التي يؤسس الفلسطيني عليها مصيره، واستعادة وجوده الكامل ،وجوده المسروق منه أهم عوامل عناصره في وضح النهار..هذه حقيقتنا وهي من قبيل الحقائق التي لا يستطيع مزاح التاريخ الثقيل أن يلغيها.
فالأرض الفلسطينية ليست فكرة مجردة اخترعها الفلسطيني اختراعاً، ولم يفتش عنها في ثنايا كتب أسطورية صفراء، ولم يستقوِ بأحد من الخارج لامتلاكها، إنها هي وقائع حياته اليومية، وتاريخية الموصول دون انقطاع، إنها تربة تنبت فيها مئات النباتات التي منحها الفلسطيني أسماءها، وأرض رفات من أحب ويحب، وأغان وأهازيج وعادات أفراح وأتراح عمرها مئات السنين، ولغة أنتجت أجمل الشعر والقول والأمثال، وفوق هذا وذاك أرض زرعت بأقدس الأرواح ورويت بأطهر الدماء بوصفها وطناً.
ما كانت لهذه العلاقة العاطفية بفلسطين، علاقة الحب الجارف لها، أن تكون على هذا النحو الجميل لو لم تتوحد الحقيقة مع الإنسان. وبالتالي فالعربي الفلسطيني لم يتوسل حقه من قرارٍ هنا أو إعلان هناك، فكل القرارات تتضاءل أمام الحقيقة الناصعة التي ذكرت.
الصهيوني كائن أيديولوجي اخترع مصطلح أرض الميعاد، ليخلق الانتماء الأيديولوجي لها، ويرسم طريقاً لتحقيق الوهم الأيديولوجي. غير إنتصار الوهم على الحقيقة واللاحق على الحق بالواقعة التي يجب أن نستسلم لها. وليس انهزام الحقيقة بالأمر الذي يدعونا للاعتقاد بوهم عدونا.
إن الانطلاق من حقنا الأبدي في فلسطين هو الاعتراف بالحقيقة دون لبس، والانطلاق من هذه الحقيقة هو المعيار لتقويم أي سلوك سياسي ماضٍ وحاضر مستقبلي. إن الحقيقة التي هي كما قلت جزء منا تواجه على نحوٍ واضح كل أشكال التزييف الواقعية. فليس كل واقع يحوز على الحقيقة وليس كل حقيقي يحوز على تعينه.
إن (وجود دولة إسرائيل) واقعة لا مجال للشك فيها تماماً كما هو الشر الذي يصادر نزوع الإنسان نحو الخير. وإسرائيل شر مطلق وبالتالي إن وجودها الواقعي لا يختلف عن وجود الشر السالب للوجود الحقيقي.
وآية ذلك أن العلاقة بين اليهودي وفلسطين علاقة خارجية تقوم على الاحتلال والاغتصاب والتهجير والقتل والسجن، واستمرارها مترابط بعامل خارجي، فهي موجودة بغيرها واستمرارها مترابط بعامل خارجي، بينما نحن لا نحتاج إلى أي عامل من الخارج لنوجد، فرغم اللجوء والتشرد وسلب الحق التاريخي، احتفظ الفلسطيني العربي بوعيه بوجوده،فلا وجود للفلسطيني دون الترابط بينه وبين الوطن -الأرض. ومنطق القوة الذي ما برح يجهد لتحقيق الانفصال بين الأرض والفلسطيني ليس بقادر أبداً على الإنتصار على هذا الوعي.
يطمئن الفلسطيني لمصيره وهو يواجه منطق القوة، بينما يحمل اليهودي الصهيوني نفسية اللص الخائف دائماً من إمكانية القبض عليه. والمدقق في فكرة الأمن الذي يسعى إليه الصهيوني يكشف دون عناء عن عقلية اللص، حيث الخوف جزء لا يتجزأ منه. وبالتالي فهو فاقد لشعور الحرية، وبشكل دائم، وإن من فقد شعور الحرية على أرض لا علاقة داخلية فيها، لا يمكن إلا أن يعول على الإجرام كطريقة مثلى لإكساب الأمن، ولكن هيهات للمجرم أن يحصل عليه حتى ولو قدم له صاحب الحق الفدية التي يطلب.
لنزع العلاقة الطبيعية بين الفلسطيني وأرضه التي اسمها فلسطين، ومن اسمها أخذ صفته الماهوية ، يطرح اللص وحماته كل ما من شأنه تحويل غايته إلى واقع. يطرح الحكم الذاتي: والحكم الذاتي إسرائيلياً هو التالي: تحويل السكان الأصليين في وطنهم إلى بشر من الدرجة الثانية غير حائزين على حق الإنسان بالتصرف الحر على أرضه التي يراد لها أن تكون أرض إسرائيل.وفقدان اللاجئ الفلسطيني حقه بالعودة.
ويطرح: التعويض على الذين شردوا عنوة، فيغدو المال مقابل الوطن
يطرح التوطين: أي عش أيها الفلسطيني حيث أنت، أو حيث يشاء الآخرون أن تعيش، متخلياً عن هويتك الأصلية.
يرفض الفلسطيني الحكم الذاتي لأنه بالأصل يعرف حق المعرفة الوطن ويسعى إليه، ويبحث بالأصل عما يجعله مواطناً بالمعنى الحقوقي، السياسي يحمل صفة وطنه. يرفض الحكم الذاتي، ولأنه اعتراف للعدو بحق من حقوقه المطلقة، ألا وهو حقه في فلسطين كلها.يرفض التعويض: لأنه ما من إنسان يبني العلاقة العاطفية والتاريخية على وطنه مستعدٌّ لبيع الوطن بحفنة من الدولارات.
يرفض التعويض: لأن كرامته الوطنية لا معنى لها خارج نزوعه العملي والنفسي للعودة إلى أرضه.
يرفض التوطين: لأنه ليس خياره الحر، ولن يحوز على الحرية في مكان آخر غير وطنه.
إذن لا شيء سوى حق العودة وحق العودة فقط، لأنه الحق بالوطن. يجب أن نجعل من هذه الفكرة حية في ضمير العرب قاطبة. يجب أن تظل عاملاً مؤرقاً للص الذي لن يهنأ في فلسطين طالما عامل السلب الفلسطيني والعربي حاضراً.
لا شيء سوى حق العودة، لأنه وحده الذي يعبر عن الترابط الموضوعي بين الفلسطيني وأرضه. لا شك أن سبل الوصول إلى هذا الحق صعبة ومعقدة، لكن الفكرة يجب أن تظل حية. لأن التخلي عنها لا يعني سوى الاستسلام لواقع وهمي وتنكر للحقيقة التي نجهد لتحويلها إلى واقع متعين على الأرض. أن تظل عاملاً مؤرقاً للص الذي لن يهنأ في فلسطين طالما عامل السلب الفلسطيني والعربي حاضراً.
وهذا يعني بأن الخامس عشر من أيار هو بالنسبة للفلسطيني تأكيد لوجوده على أرض فلسطين، وليس تذكراً لوجود مضى.