أعتقد، جازماً، أن السؤال عن منظمة التحرير الفلسطينية من حيث حالها ومصيرها في هذه المرحلة سؤال أساسي وملحّ، وعندما أقول في هذه المرحلة، أعني أننا، الآن، في مرحلة لا تمت الى تلك المرحلة التي شهدت ولادة منظمة التحرير وممارساتها الكفاحية العملية والسياسية. وعندما أقول إن السؤال أساسي وملحّ فهذا يعني أننا يجب أن نفكر في إبداع ما، بمؤسسة قادرة على أن تقود كفاحنا في هذه المرحلة.
ولست براغب في العودة إلى التاريخ الذي ولّد منظمة التحرير الفلسطينية. حسبي القول إنها الوليد الشرعي والواقعي والأيديولوجي، لحركة التحرر العربية بصورتها السابقة القومية والاشتراكية، والتي كانت الناصرية رمزها الفاقع، وحيث كان الوعي بفلسطين كقضيةٍ وعياً قومياً، وبوصفها جرحاً عربياً، وفي ظروف الحرب الباردة وتقسيم العالم، وانفجار حركات تحرر عالمية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، مدعومةً من الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية. هذا العالم الذي أنتج منظّمة التحرير الفلسطينية قد زال بالمرّة.
حتّى الآن، لم تستقر صورة العالم للمرحلة القادمة. عربياً، أعلنت الثورات بداية عالم جديد من الصعب أن نتكهن بفترة انتصاره، عالم يتجاوز الدكتاتوريات العسكرية والدكتاتوريات الأصولية، وفلسطين انتقلت من قضية إلى مشكلة، يبدو أنَّ لا أحد من العرب مكترثٌ حتى بحل المشكلة، وإسرائيل في ورطة تاريخية، حيث العصبية الأيديولوجية الصهيونية قد ضعفت، والعالم الأوروبي لم يعد يرى فيها وظيفة، والولايات المتحدة الأميركيّة على الرغم من تأييدها المستمر لإسرائيل، إلا أنَّها لم تعد ترى في الصراع العربي الإسرائيلي جدوى عملية، و"كامب ديفد" و"وادي عربة" نماذج حاضرة للتكرار.
والحشد الشعبي العربي وراء الحق الفلسطيني في برود مستمر، والثورة الفلسطينية التي ملأت الدنيا وأشغلت الناس صارت جزءاً من الماضي. والشباب الفلسطيني في الشتات لم يعد منخرطاً في العمل الفدائي أو الوطني الفلسطيني، وتنظيمات المقاومة التي شكلت الجسم الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، في ترهل وضعف وفقر شبابي.
وأوسلو أنتجت وضعاً من الصعب الاستمرار فيه، ومن الصعب تجاوزه. وحماس انفردت بغزة، طارحة نفسها البديل العملي وغير المعترف بتمثيل منظمة التحرير للفلسطينيين. وأوروبا تنظر إلى القضية الفلسطينية نظرة أقل من سؤال، وأكثر من واقعة إنسانية مع عجز على إحداث تغيير في العملية السياسية.
أمام واقع كهذا فإن فاعلية منظمة التحرير الفلسطينية، لا تعدو أن تكون أكثر من فاعلية شكلية، فحتى مكاتبها في الخارج تحولت إلى سفارات فلسطينية، والسلطة الفلسطينية قد ابتلعت المنظمة ابتلاعاً سياسياً وعملياً.
وصارت السلطة من وجهة نظر القائمين عليها الممثل الشرعي والوحيد. والميثاق الوطني الفلسطيني لم يعد الأساس النظري والأيديولوجي والحقوقي للممارسة العملية للسلطة. والدعم العربي المالي الذي كانت تنعم به المنظمة صار من الماضي. أمام واقع كهذا، علينا أن نسأل، ما الذي تبقى من منظمة التحرير الفلسطينية؟ ما هو البديل؟ وما العمل؟
من حيث المبدأ، لا يمكن العمل بوجود سلطتين فلسطينيتين، سلطة شبه دولة على الأرض في الضفّة، وسلطة شبه دولة مجردة هي المنظمة. وإذا أضفنا سلطة حماس في غزة، صار لدينا ثلاث سُلطات تتقاسم تمثيل الشعب الفلسطيني، وهذه السلطات مفتقرة لأي فاعلية في إيجاد أي شروط لقيام الدولة الفلسطينية على حدود حزيران 1967، وعاصمتها القدس، الهدف المتفق عليه فلسطينياً وعربياً ويحوز على شبه موافقة عالمية.
ولهذا فإن هيئة المجلس الوطني الفلسطيني، التي هي مؤسسَّة تمثيلية قادرة على إعادة إنتاج التمثيل الفلسطيني في صورة جديدة في الداخل والخارج، لا تكون قادرة على احتكار التمثيل الفلسطيني إلا عبر الانتخاب الفلسطيني العام في الأماكن القابلة لعملية انتخابيّة كهذه، بحيث يكون المؤتمر الوطني البديل للمجلس التشريعي، الذي سينتخب مؤسسة السلطة، بوصفها تعبيراً عن دولة لجميع الفلسطينيين في الداخل والخارج، ويكون مقرها رام الله وفي المستقبل القدس.
فاستعادة الانتماء والولاء لمنظّمة التحرير الفلسطينية في هكذا شروط هو أمر مستحيل الآن، ولا بد من إنتاج مؤسسة تعيد الشعور الجمعي بالانتماء والولاء من جديد من قبل كل الفلسطينيين، ويكون مقرها على أرض فلسطين.
لا شك أن أمراً كهذا يحتاج إلى كفاح، وتوفير شرط فلسطيني كفاحي، وشرط عربي وعالمي كي يرى النور. وإلا فإن فلسطين التي تحولت من قضية إلى مشكلة، ستصير أقل من مشكلة.