تقول الرواية المتداولة عن وفاة الشاعر الجاهلي امرئ القيس، واسمه حندج بن حجر الكندي، بأنّ امرأ القيس قد ذهب لطلب النجدة من قيصر روما ليأخذ بثأر أبيه ملك كِندة الذي قُتل من قبل بني أسد،وحين همّ بالعودة ألبسه قيصر درعاً مسموماً،فتقرّح جسده ومات، ولهذا سمي بذي القروح وهو القائل:
بكى صاحبي لما رأى الدربَ دونَه
وأيقنَ أنّا لاحقانِ بقيصرا
فقلتُ له لا تبكِ عينُكَ إنما
نحاولُ ملكاً أو نموتَ فنُعذرا
لست في واردِ الحديث عن صحة هذه الرواية أو صحة نسب هذا الشعر إلى من سمتْه العرب بالشاعر الضليل،أو صحة ما جاء على لسان الرسول الكريم عندما ذُكر الشعراء عند الرسول، فذكروا امرأ القيس فقال الرسول: مذكور في الدنيا منكور في الآخرة، حامل لواء الشعراء في جهنم يوم القيامة.
لكني سأتوقف عند أمرين: قوله نحاول ملكاً،وطلب العون من الغريب للحفاظ على ملكه.
والحق بأن استخدام امرئ القيس لمفهوم الملك بدلالة السلطة بالمعنى المعاصر للكلمة إلا تأكيد بأن السلطة تملك. وجاء في المعاجم ملك الشيء استولى عليه وكان في قدرته أن يتصرف به بما يريد، وملك على القوم استولى عليهم.
والغريب في الأمر بأن الذهنية العربية القديمة التي كانت ترى السلطة ملكاً ما زالت حاضرة في وعي حكام بلادنا حتى الآن.وفي هذا الأمر لا يختلف فيه من كان ملكاً يتوارث الملك،أو كان رئيساً استخدم الطريقة الشكلية للتسلط.
وهذا هو الذي يفسر استمرار الملك والرئيس حتى يأتي الموت ويصطحبهم إلى المقابر، أو تأتي قوة داخلية يقودها طامح للسلطة وتقوم بانقلاب عسكري على الحاكم،أو تأتي قوة خارجية ذات سلطة إمبراطورية جبارة وتزيل صاحب الملك عن عرشه.
فحافظ الأسد سنّ دستوراً على قدّه يقوم على الاستفتاء عليه فقط بعد أن ترشحّه قيادة الحزب التي ليست سوى مجموعة من العبيد الخُلّص له، تماماً كما هم كتبة الدساتير له ولابنه من بعده.
وبورقيبة ظل مالكاً حتى أصابه الخرف ثم قام زين العابدين بن علي بانقلاب عليه، وأخذ الملك منه وظل ابن على حتى قام الشعب عليه بالثورة.
وظل صدام حسين في الملك حتى احتلّ الأمريكي العراق وسلّمه إلى السلطة الشيعية الحاكمة وانتقمت منه إعداماً في أول يوم من أيام العيد، وقس على ذلك.
وإذا كانت الأنظمة الملكية تقوم على توريث ولي العهد أخاً كان أو ابناً،ولا تثير رد فعل، فذلك لأن الأمر من طبيعة البنية الحاكمة المعترف بها .
أما تحويل الجمهوريات إلى ملكيات، بل وتكون سلطة صاحب الملك مطلقة وغير قابلة لأي نقد، فهذا مما ليس من طبيعة السلطة الجمهورية.
وبالمناسبة فإن جميع النظم الجمهورية الشيوعية سارت على درب هذا المنطق في الملك الجمهوري.
أما النقطة الثانية فهي الاستنجاد بالغريب من أجل الاحتفاظ بالملك، وما استنجاد صاحب الملك من قوة غريبة للاحتفاظ بملكه فهذا يدل على أمر لا لبس فيه ألا وهو أن صاحب الملك لا ينتمي إلى الملك فقط ولا علاقة له بالانتماء الوطني.
فإذا حصل وأنجدت قوة عالمية أو ما شابه ذلك صاحب ملك واحتفظ بالملك،فإن صاحب الملك يتحول إلى دمية عرائس بيد المنجد،كما هو الحاصل في سوريا مثلاً.
لذا فإن الغريب القادم بجيشه وسلاحه وميليشياته يأخذ الملك والأرض وما عليها، والأمثلة على صحة ما نقول،غير المثال السوري والعراقي، لا حصر لها،والسؤال الأهم الذي يطرحه الإنسان على نفسه: ما الذي يحمل دولة غريبة على نجدة سلطة حاكمة؟ وإذا كان السؤال ينطوي على نصف الجواب، فإن هذا السؤال ينطوي على كل الجواب.
ويبدو أن جميع المُنجدين يُلبسون طلاب النجدة دروعاً مسمومة وقد يموتون أحياء. ولعمري إن استنجاد سلطة ما بدول غريبة خوفاً من المجتمع، وبدافع إلحاق الهزيمة بالناس لهو أعلى درجات الخيانة العظمى، خيانة الناس، والتاريخ، والعقل، والضمير.
أجل من الغرابة أن تعيش ذهنية امرئ القيس الذي يُقال بأنه وُلد عام 501م في نجد ومات عام 544م في أنقرة ،حتى هذه اللحظة من التاريخ.