حين تتبادل الرأي مع الآخر فيكون بينكما نقاش،كما هو الحال حين تناقش نفسك فإنك تقلب الآراء في عقلك. والنقاش بهذا المعنى يُفضي إلى رأي لم يعد خاضعاً للنقاش، ولهذا نقول:وبعد نقاش مطوّل وصل المناقشون إلى نتيجة مفادها كذا وكذا.
ولكي يكون النقاش ممكناً يجب أن يتوافر فيه شرط أساسي ألا وهو الاعتراف المتبادل بين المتناقشين. والاستعداد المسبق بالقبول بما يتوافق مع المنطق العقلي والواقع العقلي. ولهذا فإن المعاهدات التي تقوم بين الدول غير ممكنة بدون هذين الشرطين،حتى لو كان هناك اختلاف في القوة.
والدساتير في الدول التي تحترم شعوبها إنما تنتج عن اتفاق على المبادئ المرتبطة بالحق. ولكنّ هناك نمطاً من المناقشات نسميها المناقشات العقيمة ،وهي التي تجري غالباً في عالم السياسة والصراعات .وتعود المناقشات العقيمة إلى ثلاثة أسباب،منها سببان مقصودان ،وسبب غير مقصود.
أما السببان المقصودان فأولهما إذا دخل الطرفان إلى حلقة النقاش لأسباب محمولين عليها، وقررا سلفاً ألّا يصلا إلى اتفاق ورأي مشترك. وهذا يعود إلى أن كلاً منهما ينتظر وقائع جديدة يعتقد بأنهما قادران على تحقيقها.وهذا ما يطلق عليه الوعي العام (حوار الطرشان).
وحوار الطرشان هذا هو ألّا يكلف الطرفان نفسيهما لسماع الآخر، لأن كل طرف قرر ألّا يقود الحوار إلى أية نتيجة.
أما السبب الثاني للمناقشات العقيمة فيقوم على أن أحد الطرفين قرر أن يُفشِل النقاش، ولا يسعى لأي رأي مشترك مع الطرف الآخر. وهذه حال المناقشات التي تجري بين ممثلي الجماعة الحاكمة في دمشق، وممثلي القوى الشعبية المعارضة لها.
فممثلو الجماعة الحاكمة لديهم توجيه واضح وصريح بألّا يتوصلوا إلى أي اتفاق مع الوفد الشعبي السوري تأسيساً على قرار من هذه الجماعة مفاده: إن ما لم تحصل عليه المعارضة بالقوة لن تحصل عليه بالسلم وهي مهزومة. وهذا يذكّرنا بموقف شامير بعد مؤتمر مدريد، حيث حُمل على إجراء حوار مع وفد فلسطيني آنذاك حين قال: حسناً سنستمر في النقاش لمئة عام.
فقد تضمن قرار مجلس الأمن عام 2015 الإطار القانوني لإنشاء اللجنة الدستورية،ومضت سنوات ثلاث حتى تم التوصل إلى اتفاق على هذه اللجنة بضغط من روسيا بعد الاختلاف على تشكيل هذه اللجنة. اجتمعت اللجنة لأول مرة في عام 2019 ،ثم توالت الاجتماعات وكان آخرها اجتماع اللجنة في الشهر العاشر من هذا العام، وانتهى النقاش بالفشل. فوفد الجماعة الحاكمة لديه التوجيه الأساس: لا اتفاق مع وفد الائتلاف. ولهذا أطلقنا على هذه النقاشات الدستورية صفة "اللغوصة"السياسية.
أما السبب الثالث للمناقشات العقيمة فهو الذي يعود إلى اختلاف مستويات المعرفة،وفي هذه الحال لا تعود أسباب المناقشات العقيمة إلى السببين السابقَي الذكر، بل إلى اختلاف في المعرفة، وهذا العقم يميز المناقشة بين الجهلة والعلماء، وغير مرتبط بالسياسة في الغالب.
ولهذا فإن أحد أشكال العبث الكوميدية حوار يقوم بين عقل خالٍ من المفاهيم النظرية الضرورية للفهم،من جهة، وعقل يستخدم عدة مفهومية لا يمكن بدونها فض الظاهرة، من جهة ثانية ،فمن العبث أن يدور نقاش بين عقل لا يعترف بسلطة المنطق وعقل مسلح بالمنطق.