أن نتحدث عن منصور الأتاسي بأنه أنموذج للمثقف العضوي الذي تحدث عن غرامشي،فهذا ضرب من التكرار ،وقول لا يبرز الصفة الماهوية لمنصور. فمنصور من حيث الإنتماء الفكري والإيديولوجي والأخلاقي هو شيوعي ،والشيوعية بالنسبة له نمط من الوجود المعيش ،بل هو وجود لا انفصال فيه بين النظر والعمل. لكن منصور وجود يعيّن ماهيته على نحو مستمر ..
فهذا القادم من منبت طبقي برجوازي صغير ،ومن أسرة تشتغل في المؤسسة الدينة ،أختار على نحو حر أن يكون عضواً في الحزب الشيوعي السوري،دون أن يدفعه منبت طبقي إلى ذلك،بل لم يكن موقفه صادراً إلا عن تمرد أخلاقي على اضطهاد الأغنياء للفقراء،وهكذا تحددت ماهيته أولاً بوصفه شيوعياً..
لكن هذا الشيوعي لم يكن يرضى عن ماهية تدافع عن نظام مستبد،فتمرد على حزبه وصار جزءً من معارضة النظام.. هذا الشيوعي لم يترك شيوعيته بتركه للحزب بل طوعها للكفاح الوطني ضد الدكتاتورية،وظل منتمياً لليسار المتمرد المنتمي إلى هموم البشر.
فعين وجوده الأخلاقي بحزب اليسار الديمقراطي السوري.إن مصطلح اليسار الديمقراطي لا يعني سوى أن المنتسب منتمٍ إلى كفاح المضطهدين من جهة،ومؤمن بحرية المجتمع عبر جعل الديمقراطية هدفاً أساسياً له.إنها ماهية جديدة:اليسار الديمقراطي.
واليسار الديمقراطي ليس سوى قطيعة مع تاريخ صفة لازمت الحركات الشيوعية كلها،ألا وهي صفة الدفاع عن الأنظمة الشمولية ،سواء بتأييد سلطة الحزب الواحد ،أم بتأييد الزعيم الواحد داخل الحزب في صورتها الستالينية والبكداشية.
وأن يختار منصور أن يكون حزب الحزب اليساري الديمقراطي ،فهذا يعني أن يكون مناضلاً داخل الثورة السورية في براءتها الأولى كحركة تدافع عن الديمقراطية.بل كان يكافح من أجل ديمقراطية الثورة ووطنيتها ضد الأصولية والتبعية.
فماهيته الوطنية الديمقراطية لم تكن تسمح له ان يداهن الإسلاميين وأتباع الدول التي أصبحت تتحكم بمسار مستقبل سوريا(إيران وأمريكا وتركيا وروسيا وإسرائيل).
بل لقد انتبه إلى تلك الفئات الزائفة التي قال عنهاهناك مجموعات وأشخاص معارضين للنظام …وعندما يتهدد النظام يبقوا معه ويدافعوا عنه بحجج مختلفه …إن معارضتهم للنظام تهدف الى استمراره …وليس تغيره ….هؤلاء ليسوا معنا اذا كنا نعمل على اسقاط النظام …وهم اخطر من النظام نفسه).
فهو بهذا المعنى وحد بين مفهوم اليسار انتماءً لهموم البشر،ومفهوم الوطنية انتماءً للوطن ومفهوم الديمقراطية انتماءً للحرية الفردية والحرية المجتمعية.
أجل. هو ذَا منصور الأتاسي،الذي كان لي معه تجربة طويلة من التعاون المشترك في ندوات كان يدعوني إليها في حمص،ثم بعد الثورة على وسائل التواصل الإجتماعي.
لقد اتحد في شخصية منصور المثقف والسياسي،وحينما تصبح الثقافة، بما هي علم وقيم، مترابطة مع الموقف السياسي ،تصبح السياسة ذات جدوى خلاصية إنسانية.
لقد كتبت عندما تهادي ألي رحيل منصور قائلاً(كوقع الصاعقة علي جاءني خبر رحيل الصديق منصور أتاسي،فمنصور ينتمي إلى الروح النبيل والقلب النضر والعقل الوقاد والضمير الحي المستقيم.
انتمى إلى أوتوبيا حباً بالإنسان والعدالة والمساواة،صادقاً في كفاحه،وتمرد على حزبه منتمياً إلى روح التمرد الثورية الربيعية السورية،حاملاً همه الأصيل بكل نشاط عملي خلّاق.
ما زال صوته الحميم ساكناً في سمعي،وهو يدعوني بكل حب وأدب جم للإشتراك في ندوة هنا وندوة هناك،وفِي إلقاء محاضرة بين الفينة والأخرى،ويدير الحوار بعقل محب للحقيقة.
لم يكن يتخيل ابن حمص،المدينة التي عاش عاشقاً لها، أن يحمله الطاغية على مغادرتها أماناً من الغدر.ولَم يفقد الأمل في العودة إليها منتصراً.
لم ينظره الموت كي يرى حلمه الوطني وقد تحقق في الواقع،لكن روحه المجنحة لن ينتصر عليها الغياب أبداً).
وحين سيكتب المؤرخ عن مكافح صلب ضد الديكتاتورية والطغيان في سورية سيكون اسم منصور الأتاسي واحداً من ألمع الأسماء.