لا يصير الإنسان إنساناً إلا إذا سرت فيه روح السؤال، ولهذا فالذات التي امتلأت بالأجوبة واطمأنت إليها واكتفت بها ذات -شيء .والثقافة، بدورها، إذا تحولت إلى ثقافة أجوبة لن تتعرف على قيمة روح بوصفها امتحاناً معرفياً للمعروف وللواقع معاً. فثقافة الأجوبة هي الثقافة الراكدة تاريخياً والعاكسة لمجتمع راكد، ثقافة مجتمع يعيش الاستبداد السياسي والأيديولوجي والقيمي والديني، مجتمع مناهض للذات، مجتمع يولّد ثقافة بلا فضاء، ومعادية للشك والبحث الدائم عن الجديد.
ثقافة الأجوبة هي ثقافة سيطرة النظام المتعالي على البشر والمتمثل بالبني الآتية:
أولاً: بنية الوعي الأصولي: ولا يحسبن المرء أن الوعي الأصولي وقف على الأصولية الدينية فقط، وأجوبة الإيمان المطلقة والجاهزة وإنما كل تمترس وراء الحقيقة المطلقة هو وعي أصولي. كل تعصب لفكرة أو لواقعة تاريخية أو لسلطة سياسية أو لأيديولوجيا ما هو وعي أصولي.
ومن هنا يأتي خطر الأيديولوجيا الشمولية على روح النقد، سواء كانت أيديولوجيا دينية أم كانت أيديولوجيا دنيوية.
ثانيا: النظام السياسي الدكتاتوري القمعي: يصادر النظام القمعي الحرية في الحياة، وبالتالي يحجر على روح النقد بوصفها صورة احتجاج على العالم. ويخلق حراس الجهل والقبول والنعم. إنه عالم الأجوبة الزائفة.
ثالثاَ: عالم القيم السائدة وحراسها من الجماعات العتيقة: فحراس المألوف والقديم يقفون بالمرصاد للذات السآلة حاملين سيف التهديد والوعيد والشر. فلنتوقف عند السؤال إذن.
وعندي إن ظهور السؤال ظهور لروح النقد حين نقول انتقل الإنسان إلى السؤال. يعني أنه كان “عائشا” قبل السؤال. ثقافة الأجوبة عودة إلى ما قبل السؤال، عودة إلى ما قبل النقد. العيش قبل السؤال رد فعل البيولوجيا تجاه الحياة. الكائن الحيّ لا يريد أن يبقى حيا “بوصفه حيوانا”. عندما ظهر الكائن السائل بدأت مرحلة جديدة من الحياة متحررة من ردّ الفعل البيولوجي.
السؤال: انتقال الإنسان من المعلوم إلى المجهول. من رد الفعل البيولوجي إلى الفعل الذهني. مع السؤال يبدأ التاريخ الإنساني، لأن التساؤل تدشين لمرحلة التفكير وولادة الإنسان الحر.
السؤال عتبة الحر، ذلك أن كل سؤال إنما يتجه نحو الامتلاك، امتلاك ما ليس معطى مباشرة، امتلاك السر. هذا الامتلاك غير ممكن دون شعور بالرفض والتمرد وابحث عن الخفيّ.
إنه – أي السؤال – اجاه نحو المستقبل. طالما هو يسعى الامتلاك، إلى كشف السر. فالسر ليس في الماضي وليس في الحاضر، ولكن الظهور هو في المستقبل، الامتلاك هو في المستقبل.
السؤال يتجه نحو المستقبل لأنه يحتاج جهدا للكشف. وكل كشف هو حركة إلى الأمام.
الكائن وهو يتجه نحو الأمام إنما واقع في حال القلق الوجودي. فمع السؤال بات يعرف أنه مختلف عن كل الأشياء والكائنات وأنه لم يعد مستقرا “في لحظة من الحياة. والسؤال وقد حرره من استقراره وألقاه في يم المعلق، حمله على التفكير بوجوده عبر التفكير بوجود العالم أصلا”.
هل حياة السؤال هي حياة الكائن وحياة الكائن الولادة المستمرة للسؤال. وهو المعيار المميز بين الكائنات وترابتها. من الكائن الذي عاش ويعيش بلا سؤال إلى ظهور الكائن ذي السؤال العامي إلى ظهور السؤال الديني إلى السؤال العلمي إلى السؤال الفلسفي إلى سؤال المعرفة والنقد إلى السؤال عن السؤال.
لا أعرف بدقة زمن ظهور السؤال لكني أعرف أن الحاجة والدهشة وحب المعرفة الذي نما في إطار الحاجة والدهشة كل ذلك أسس لظهور المتسائل بوصفه “شكلا” من شجاعة الوجود المتجهة إلى الفهم. وليس مصادفة أن سمت العرب أدوات التساؤل أدوات الاستفهام. فالسؤال محاولة في الفهم، وتحرير الكائن من الموقف السلبي تجاه الوجود، وكل محاولة في الفهم تجاوز.
يتميز الكائن السلبي بأنه محروم من الدهشة. إنه يقف أمام العالم بكل ما ينطوي عليه من غرابة، موقف المشاهد ذي العطالة العقلية. ولهذا ربط اليوناني ظهور الفلسفة بالدهشة، أي بين الفلسفة والتساؤل والتأمل.
في العلاقة بين التساؤل والتأمل نقبض على ترابط دائم، حيث لا تساؤل دون تأمل ولا تأمل دون تساؤل. ولا تأمل وتساؤل دون نقد صريح أو مضمر. في هذا الترابط يكون التأمل حالة مثله مثل التساؤل بوصفه دهشة خفية. فـ”المتأمل لا ينطق بالسؤال، بل يطرحه على نفسه صامتا”. والتأمل المتسائل والمتسائل المتأمل أس الدهشة وظهورها، فالدهشة تظهر بالتأمل المتسائل. و”التساؤل – بهذا المعنى – ظهور الذات الفاعلة عقليا”.
والكائن المتسائل كائن قرر عن وعي كامل بوجوده الذي هو أمامه دائما أن لا يتصالح مع الواقع الإنساني بل والطبيعي.
حين تعلن الذات “إن هذا العالم لا يعجبني وأريد عالما آخر”، والعالم هنا بمعنى الواقع، فإنها بالضرورة تطرح السؤال لماذا؟ وكيف؟ وما؟ وهذا جوهر النقد. لماذا كان هذا الواقع على هذا النحو، لماذا لا يعجبني وكيف أتجاوز هذا الواقع على هذا النحو، وما هو الواقع الذي أريد. من الواقع إلى نقد الواقع ومن نقد الواقع إلى امتلاكه نظريا ومن امتلاكه نظريا إلى نقد امتلاكه وهكذا.
التساؤل هنا هو الكائن الفاعل، فاعلية الكائن العملية (البراكسيس). بوصفها عملا “ونظرا” متمردين، الكائن يريد المراد هنا متأمل ومتعين بالخطاب والسلوك. التساؤل إذن “هو سلب مطلق. ولا سلب بلا تساؤل. والسؤال هو (اللا)”.
ولأن السؤال هو اللا، فهو في الوقت نفسه هروب دائم من اليقين، من الحقيقة، من الوعي الموروث، هروب من العفن ومن الرائحة الكريهة للمستنقع من الركود التاريخي للكائن.
أعود إلى أدوات السؤال التي أطلقت عليها العرب أدوات الاستفهام، (أستنفهم) فعل لمن لم يفهم بعد، الاستفهام بحث عن الفهم والفهم تصور المعنى. في الاستفهام طلب الكشف، ومن فهم اشتق المفهوم – يعني أنه صار لديّ معنى له خصائصه.
السؤال – استفهاما – كشف، تمزيق الحجاب، لأن المعنى مخفي. يقود الاستفهام – السؤال إلى الجواب. هذا يعني أن الاستفهام الذي يطلب الفهم هو استجواب يطمح للإجابة – إلى الجواب. الجواب إذن “هو فهم”. الجواب – بهذا المعنى – ليس نقيض السؤال. بل هو السؤال وقد تحرر من السؤال. إذن قل السؤال وقد أنجب السؤال. والجواب يصير عدو السؤال، والسؤال يقارع الجواب حين يهيمن ثقافة الجواب – ثقافة استبداد الأجوبة، استبداد السلطة.
والسؤال الذي ليس استفهاما “ليس سؤالا” لا يتمخض عن الجواب، وحده السؤال – الاستفهام استجواب – الاستجواب بحثا عن الجواب.
في العلاقة التاريخية التي تقوم بين الإنسان والعالم علاقة استجواب.
الكائن يستجوب الوجود – يسأل – يستفهم، لكن “العالم لا يقدم جوابا”، لا يتكلم، يلوذ بالصمت. ولهذا الكائن هو المتسائل والمجيب، لكن المتسائل لا يطرح السؤال إلا بوحي من العالم. العالم الذي يوحي بالسؤال يوحي بالجواب دون أيّ كلمة منه. لا يحمل الوحي – العالم كتابا “مسطورا” من الجواب. بل يترك المتسائل في حيرة، وحرا “في التجوال”، حرا “في التقاط ما يستطيع. بل ويغلق على نفسه أحيانا ويهيئ للمتسائل جوابا”. التساؤل “اعتراف بالعالم وبالحجاب أولا، واعتراف بسلطة الذات ثانيا، واعتراف بالفقد ثالثا”.
العالم محجوب، والظاهر يوحي بالسؤال عن المحجوب، الذات لا تراه، وتسعى لأن تراه. العالم محجوب لأنه يحدثني بلغة لا أفهمها مباشرة. ولهذا فالفهم هو تعلم لغة العالم المحجوب، يتعلم العالم لغة الكائن التي ما أن يتعلمها العالم حتى سهل استفهام العالم والكشف عن الحجاب. العالم هو أنا وكل ما يقع تحت سلطة الأنا ،العالم هو كل ما يحمل الأنا على الفهم والتساؤل.
حين أسأل ذاتي عن ذاتي أغدو عالمين، العالم إذن “عوالم”. لكني أنا العالم الوحيد الذي يطرح السؤال، العالم الآخر هو الذي يسأل. ولهذا عندما أجعل من ذاتي “عالما” يُسأل أخرجه من عالمي بوصفه “عالما” آخر، والذات العالم الذي يسأل.
العالم عوالم يعني أن العالم يوحي بعدد من الأسئلة، بل كل ما يظهر لي على أنه شيء مسمى هو أشياء.
الجبل: هذا الكائن الشيء العالم الظاهر الموجود هم مجموعة من العوالم يوحي بأنماط متعددة من التساؤل ومن السائلين. فالجبل هذا بالذات وليس سواه: مقدس، قديم، بركاني، جميل، ذو معنى قومي، ذو ماض تاريخي – إنساني.
إذن “الجبل مجموعة من الألفاظ اللغوية الدالة. صار الجبل لغة. كل جواب عن سؤال يصير عالما من اللغة ولأنه كذلك فقرّاء العالم كثيرون”. الذات – سلطة حملت العالم على أن يكون ذا لغة، عبر سلطة السؤال هذه ولدت الذات. ولم تعد محدودة، وتعيّن الذات يعيّن بدوره جملة أسئلتها.
حين تطرح الذات السؤال تشعر بالنقص، بالفقد، وتبحث عن الامتلاء. ولأن السؤال يضع الذات في حضرة الشعور بالنقد فإنها تبحث عما يسد جموحها نحو اللقاء “وجها” لوجه بما كانت تبحث عنه.
ولهذا فإن الذات الممتلئة بالأجوبة والمكتفية هي ذات فارغة وليست ممتلئة، فارغة من الفقد الذي يدفعها إلى التساؤل. الذات الممتلئة هي الذات الغنية بالأسلحة. والسؤال بوصفه حاجة هو دافع لا يتوقف، دافع يتحول لدى الذات الممتلئة إلى غريزة عقلية. بل إلى غريزة نقدية.
ربما يكون في مصطلح (الغريزة النقدية) نوع من التناقض أو هكذا قد يفكر العقل العامي.
عندما أصف الذات المتسائلة أنها قد وصلت إلى حد أن أصبح التساؤل عندها غريزة نقدية فهذا يعني أنها لم تعد ترى وجودها الحر خارج التساؤل الذي أصبح صفة لازمة من صفات عقلها النقدي، إنها ذات عقل جائع دائما يتجه إلى خارجه ليمتلئ في اللحظة ويعود جائعا وهكذا.
أخطر تعيّنات الذات تلك التي تعود إلى الثقافة المسيطرة، والتي تفرض على الذات طبيعة الأسئلة وطريقة حلها وتحرمها بالتالي من غريزة النقد التي ولدت بالتحرر من النعم. بل قل: تفرض الثقافة على الذات عادات السؤال إلى حين تتحرر الذات عبر قتل الآباء ومراجعها المتوارثة.
والذات حين تنتصر وتغدو الثقافة “تعبيرا” عن انتصارها تتحول الثقافة هذه إلى عامل مساعد لإبداع الذات – السؤال. ودون ذلك لا سلطة ذات، أو وجود ذات بلا سلطة على ذاتها.
لقد استخدمت مصطلح ثقافة الأجوبة بوصفها ثقافة راكدة، استبدادية، مناهضة للذات وللحرية، وذات أسوار عالية لمنع الهروب إلى السؤال. ثقافة بلا فضاء، معادية للشك وللبحث عن الدائم، عن الجديد وبالتالي معادية للنقد.
أسئلة ثقافة الأجوبة أسئلة التكرار الممل التي تنطوي مباشرة على الجواب الجاهز سلفا. لأنها ثقافة التعصب، ثقافة الوعي الأصولي بالعالم.
تحاول ثقافة الأجوبة أن تمنع الذات من الشعور بالفقد وبالعدم. تحاول أن تحولها إلى خزان أجوبة، إلى ذات عاجزة عن النقد. فالذات المتسائلة تشعر بالنقصان دون أي شعور بالامتلاء الدائم. ففي الوقت الذي تتحرر فيه الذات من ثقافة الأجوبة في عملية رفض وصراع وخوف وثورية ونقد لثقافة الأجوبة، فإن الذات في ثقافة السؤال تحلّق بحرية كاملة دون أي عائق في فضاء السؤال المغتني بثقافة السؤال ثقافة الحرية. ثقافة النقد.
يقع السؤال النقدي في ثقافة الأجوبة في حقل الحرام، وتفرض على الناس أسئلة تنطق بالأجوبة الجاهزة. إنها تقوم “عمليا” باغتيال السؤال بسلب السؤال ماهيته وتنشر شبه السؤال. فالسؤال المستند إلى حقائق مطلقة زائفة أصلا “ليس سؤالا” بل “تأكيدا”، كل سؤال تأكيد هو شبه سؤال.
تأمل شخصا يريد أن يسأل عن الكون وهو مؤمن بأسطورة التوراة أو فرض عليه الخامات أن لا يطرح السؤال حول الكون إلا تأسيسا على هذه الأسطورة.
إن “الاستفهام من وحي المقدس ليس سؤالا”.
السؤال بوصفه شعورا بالنقص يحول البشر إلى سيرورة دائمة ولا نهاية لها من التفكير والتأمل والتجاوز والرفض واليقين بين قوسين، اليقين بين قوسين ليس “انتقاصا” من الحقيقة، بل “تأكيدا” لماهيتها المفتوحة على كل جديد، وعلى كل نقد.
اليقين – الجواب حين نجعله بين قوسين اعتراف متحفظ بالحقيقة. وإن وضع الحقيقة بين قوسين يعني بأن الحقيقة هي “واقعة حبلى بالإمكانية دائما”، لأن “كل واقعة هي حبلى بالسؤال دائما”. ومن هنا ينتج أن ثقافة الأجوبة هي ثقافة الحقائق المنجزة إلى الأبد. الحقائق التي لا يأتيها الباطل ولا تتغير ولا تتبدل.
وإذا كانت ثقافة الأجوبة وثقافة الحقائق الأبدية التعبير الصارخ على التأخر التاريخي – الإنساني ولا وجود لإنسان بوصفه “حرّا”، فإن مجتمع الأسئلة والحقائق الحبلى بالإمكانية هي النقيض المعبّر عن حضور الذات الحرة المعبرة عن مجتمع الحرية وثقافة النقد.
السؤال في ثقافة النقد اكتشاف وليس اختراعا، والسؤال الاكتشاف هو السؤال الحقيقي، لأنه صادر من قلب الواقع، وجوابه كامن في قلب الوقائع محجوبا، ولكنه جواب يكشف عن نفسه عبر السؤال.
إني لا أستطيع أن أخترع سؤالا “حتى ولو كنت حرا”، فالسؤال في ثقافة الأجوبة صادر عن الأجوبة الصادرة عن أسئلة مخترعة لا رابط بينها وبين الوقــائع سوى رابطة وهمية. فالذي اخترع وجود الأشباح في الخرب والبيوت المهجورة أو المعمورة اخترع السؤال: ما الطريقة لإخراج الأشباح من المكان، أما السؤال: لماذا يؤمن الناس بوجود الأشباح وما الثقافة التي تؤسس لإيمان كهذا، فهو سؤال عن واقعة الإيمان بالأشباح بوصفها واقعة ذهنية، سؤال فهم واقعة الإيمان ليس إلا نقدها.
ولو عدنا إلى جواب السؤال الزائف ( ما الطريقة لإخراج الأشباح)؟ فإن الأجوبة جاهزة أصلا، وليس هناك أيّ أمل بتحرير الناس من الأسئلة الزائفة إلا بتحريرهم من الأجوبة الزائفة.
غير أن خطر الأسئلة اليومية الزائفة أقل بكثير من خطر الأسئلة السياسية والمعرفية والاجتماعية الزائفة الناتجة عن رغبة في الكذب لتحقيق انتصار سلطة ما أو استمرار سلطة ما ذات طابع عنفي ديكتاتوري تسلطي نفعي.
السياسي – الشيخ – الأيديولوجي في اتحادهم أو استقلالهم هم سدنة هياكل ثقافة الأجوبة في عالمنا وجزارو ثقافة النقد. وعندي إن السؤال والحرية والنقد في ترابط لا ينفصم أبداً.