لِسائِل أن يسأل لماذا نُدافعُ عن الدّيمقراطيّة أصلاً؟ يبدو لي هذا السّؤالٌ وجيهًا و بطبيعة الحال لِكُلٍّ أسبابُهُ و مُبرّرَاتُه المَوضُوعيّة و الغير موضُوعيّة في رفضِ الدّيمقراطيّة أو تقبُّلها. إليكم وجهة نظري.
أنا قطعًا لستُ مِمّن يدعون للدّيمقراطيّة من باب التّقليد الأعمى للغَرب دون أدنى إعمالٍ للعقل. بمعنى لا علاقة لكون الدّيمقراطيّة هي إختراعٌ غربيٌّ مَحض بمدى إقتناعي بها. لأنّهُ طالما كانت "الحِكمةُ هي ضالّة المُؤمن" فهو مَعنيٌّ بها دونما وقوفٍ على مَصدَرِهَا أو مُبدِعِهَا أو مُتَصَوِّرِهَا.
ما يعنيني في الدّيمقراطيّة هو كونُها "حِكمة" تُحيلُ علَى و تُفضي غالبًا إلى قيمة "العدل". إذ هي لا تعدو كونها عقدًا إجتماعيًّا و تنَظُّمًا سياسيًّا يُمكن من خلالهِ أن يكُونَ "العدلُ" أساسَ و جوهرَ العلاقةِ بينَ الحاكِمِ و المَحْكُومِ من جهةٍ و بين المَحكُومينَ فيما بينَهم من جهةٍ أخرى. العدلُ هنا أنا أضعُه نَقِيض الظُّلم و التّسلّط.
يتحّققُ مفهومُ العدلِ في النُّظُم الدّيمُقراطيّة بتوزيعِ الحقّ في "الرّأي" (أو السُّلطة أو الحُكم) توزيعًا عادلاً و مُتساويًا بين كلِّ المُواطنين عبر تمكِينهم، إستنادًا إلى برامِجَ و رُؤَى، من إختيارِ "مُفوَّضِين" يتفرَّغُون تفرُّغًا كامِلاً لتحقيق المنَفعةِ الإجتماعيّة القُصوى لكُلِّ المُواطنين (bien-être social maximal).
أن نُسمّيَ هؤلاء الذين إخترناهُم رُؤساءَ أو وُزراءَ أو مُلوكًا أو حتّى خدمًا هو أمرٌ لا أهميّةَ لهُ طالمَا هُم يَحكُمُون أو بالأحرى "يَسُوسُون" و "يُديرُون" مُقدَّرات الدّولة و الوَطن بإسمِنا و لمَصلحتِنا جَميعًا و ليس بإسمِهم و لمصلَحتِهم هُم فقط.
أو إن شئتُم، يُمكنُنا أن نعتبر هذا الوطنَ "شرِكةً" نتقاسمُ مِلكيّتها جميعًا و كلَّ فردٍ فيها لهُ سهمٌ واحدٌ من رأسِ مالها. و بوصفِنا مساهمين فيها، أي مالِكوها، فيَحِقُّ لنا أن نَختارَ جميعًا دون إستثناء "مُديرًا" (أو خادمًا!) نُفوّضُهُ ليُديرَها نيابةً عنّا ممّن هُم قادِرُون على تحقيق الفائدةِ القُصوى لكلِّ فردٍ منّا. الفائدةُ هُنا تعني عيشًا كريمًا رغيدًا آمنًا و عدالةً و كرامةً و طُمأنِينةً و حُقُوقًا مَحفوظةً…
إذا كان "الخادمُ" أو المُدير عند حُسن ظنِّنا به ثبّتناهُ في مكانه و شكرناه و لو كان عكس ذلك فمن حقّنا أن نُقِيلَهُ و أن نُحاسِبهُ و أن نختارَ شخصًا آخرَ مكَانهُ لأنّنا نحنُ هم أصحابُ الحقِّ و المَصلحةِ و نحنُ من بيدِنا الأمرُ و النَّهيُ.
هذا ما تعنيه لي الدّيمُقراطيّة عُمومًا. نظامٌ جوهَرهُ العدلُ.
فلنُقارن الآن هذه الفكرة، حتّى و إن كانت طوباويّةً، بما عاشتهُ أمّتُنا على إمتداد تاريخها.
نحنُ كأُمة لم يعبأ بنا من حكَمونا منذ ما يزيد عن 1400 سنة. أي منذُ أن عهِد الصّحابيّ مُعاوية إبن أبي سُفيان، رضي الله عنهُ، هذا الأمر إلى إبنهِ يزيد وهو لم يكُن أهلاً لهُ. مُنذُ ذلك الحين لم يرانا أغلَبُ من حَكمَنا إلا مَتاعًا لا قَدَرَ لنَا و لا غايَة و لا وظيفة سوى أن نَدفَعَ الخَراجَ و أن نَسمعَ و أن نُطِيعَ، حتّى لو كان ذلك على حِسابِ حقُوقِنا و أنفُسِنا و أرواحِنا.
الدّيمقراطيّة هي إذن كسرٌ و إنهاءٌ لهذا النّمطِ من الحُكم الذي سلب الأمّة رأيَها و حَقّهَا و سلّطَ عليهَا من هُم ليسُوا أهلاً لسِياسَتِها و إدارتِها و من جَعَلوا مِن أبنائِها رَعايَا مَحُكومِين بالخوفِ و مُكبَّلين بالتَّسَلُّطِ.