عندما تتوفّر العوامل المُلائمة، فالشّعبويّة هي إستراتيجيّة ناجعة و سهلة للوصول للسّلطة و لكنّها لا تحمل أي حلول أو رؤى لحلّ المشاكل الإقتصاديّة و الإجتماعيّة للنّاس. هنالك وجه شبه كبير بين حيثيّات وصول كلّ من قيس سعيّد و دونالد ترامب للسّلطة. أهم قاسم مشترك بين المثالين هو الخلفيّة الشّعبويّة التي إنبنت عليها رؤية كلا الرّجلين.
ترامب هو، تمامًا كقيس سعيّد، غريب عن السّياسة، دفعه المدّ الشّعبوي للفوز بالرئاسة الأمريكيّة و كان من أبرز شعاراته المُعلنة "تجفيف مستنقع واشنطن" (drain the swamp) و "أمريكا أوّلاً" (America first) و "بناء الجدار" (build the wall) وبذلك إستطاع إستمالة عدد كبير من النّاخبين من العمق الشّعبي الأمريكي ممّن بقي على هامش التّنمية و ممّن تأثر مباشرة بالعولمة (عَمَلة الصّناعات الثقيلة المتهاوية كمثال).
سعيّد أيضًا هو من خارج المنظومة السّياسيّة و الحزبيّة و إستطاع تسويق نفسه على أنّه شخص "نظيف" و غير قابل للفساد. أيضًا، خلفيّته الأكاديميّة كأستاذ قانون دستوري أضفت على شخصيّته الكثير من المصداقيّة. وخطابه، الذي لم تُمحّص فيه النّخب كثيرًا، كان شُعبويّا بامتياز لأنّه كان يوافق و يتماهى مع رؤية و تحليل المواطن البسيط لوضع تونس بعد الثّورة. بمعنى أن الطبقة الحاكمة هي فاسدة و غير مؤهّلة لتحكم. لكن على عكس ترامب، لم يطرح سعيّد أي تصوّر إقتصادي لحلّ المشاكل التي تعاني منها تونس. ربّما كان تصوّره أنه بإنهاء "الفساد" ستنتهي مشاكل تونس تلقائيًّا.
مردود ترامب عند وصوله للحكم كان شعبويًّا خالصًا فهو لم يعبأ كثيرًا بالمؤسّسات و لا بالقانون و هدّد عديد المرّات بأنّه سيحكم بالمراسيم إذا لم يتعاون معه الكونقرس و مجلس الشّيوخ. على سبيل المثال، عندما لم ينجح مجلس الشيوخ في إسقاط قانون Obamacare، نأى ترامب بنفسه عن هذا الأخير ناعتًا حلفاءه الحمهوريّين بالفاشلين. لم يقتصر الأمر على ذلك و حسب، بل طلب من المحكمة العليا أن تلغي القانون هكذا بكلّ بساطة! إذن، بالنّسبة له الغاية تبرّر الوسيلة حتّى و إن كانت هذه الوسيلة غير قانونيّة و غير ديمقراطيّة.
نفس الشيء تقريبًا ينطبق على سعيّد. فهو لم يبقى طويلا بعد وصوله للحكم حتّى تبيّن لنا أن خطابه المُلتزم بالدّيمقراطيّة و بالمؤسّسات لم يكن سوى مَطيّة للوصول للحكم و تفكيك المنظومة من الدّاخل عبر وضع العراقيل أمام أي تعاون مُثمر بينه و بين بقيّة المؤسّسات الدستوريّة و على رأسها البرلمان. فإمضاؤه على القانون عدد 2020-38 المأرّخ في 13 أوت 2020 لم يكن، حسب إعتقادي، سوى عدم رغبة،حينها، لدفع الثّمن السياسي متمثّلا في خسارته شريحة واسعة من داعميه.
هل كان سعيّد صادقًا في تصوّره بأنّ تفكيك المنظومة و إعادة تركيبها حسب رؤيته للأمور هو أمر إيجابي؟ أم أنّه فعل ذلك حبّا في السّلطة و لغاية الإستفراد بالقرار؟ في الحقيقة الإجابة عن هذه الأسئلة هو أمر لا يعلمُه إلاّ سعيّد نفسه. المُهمّ بالنّسبة لتونس و لنا نحن أنّ النتيجة واحدة و هي وأد التّجربة الدّيمقراطيّة الرّائدة و الدّخول بالبلاد في متاهات لا أحد، بما في ذلك هو، يعرف تحديدًا كيفيّة الخروج منها.