التّقصير في مداواة جراح تاريخنا الحديث (دولة الإستقلال تحديدًا)، هو من الأسباب التي ستُبقِي على حالة الإستقطاب و على حالة التنافر الشّديدين في كل مناحي الفعل السّياسي في تونس لعقود قادمة. الجراح التي لا تُداوَى بطريقة صحيحة و عادلة لن تندمل أبدًا و ستبقى حملاً ثقيلاً يمنعنا من التّأسيس للمستقبل على أسس صحيحة.
المداواة تكون بالسّعي في رفع المظالم بتحديد المسؤوليّات و جبر الأضرار و محاسبة المخالفين كلّ على قدر ذنبه و مسؤوليته و بعيدًا عن منطق التّشفّي أو منطق "بوس خوك". لأنّه لو قمنا بفتح جراح الماضي الغائرة بقصد مداواتها لما تجرأ أحد على فعل ما فعله بنا المنقلب يوم عيد الثّورة. لأن الكلّ سيعي أن المسؤولية تعني المحاسبة و التّجاوز يعني العقاب و لو بعد حين.
لكنّ الواقع اليوم هو أنّ تاريخنا الحديث كُتِبت سرديّته من وجهة نظر الحاكم المُستبدّ و السّاعي للحفاظ على سلطانه و المتسلّط على شعبه و على عجلة التّاريخ نفسها بإحتكاره لسرديّة الأحداث و لزاوية النّظر و لمعيار الحقّ و الباطل.
مثلاً، ما مدى حقيقة أنّ:
• اليوسفيّون كانوا كلّهم أشرار أرادو إفتكاك الدولة من يد "المجاهد الأكبر" الذي حرّر (لوحده؟) تونس من المستعمر.
• المناضل لزهر الشرايطي و رفاقه مجرّد خونة كانوا يريدون قتل الزّعيم و إفتكاك الدّولة لذلك وجب إعدامهم و إخفاء رفاتهم لعقود.
• الإسلاميّون كلّهم قتلة و مجرمون و لا مانع في نزع صفة الإنسانيّة عنهم و لا ضير في تشريدهم و التّنكيل بهم و بأهاليهم لعقود.
• المعارضون بكل مرجعياتهم الفكريّة هم عملاء و خونة و مأجورين و يعملون لحساب القوى الأجنبيّة ضدّ بلادهم لذلك لا مشكلة في قمعهم و التّنكيل بهم.
• شهداء الثّورة قتلهم قنّاصة غير معروفين و لم تستطع التحقيقات تحديد هوياتهم و هويّة من أرسلهم و من أعطاهم الأمر.
ما لم تتمّ معالجة كل هذا الكمّ من الظّلم و المغالطة سيبقى هذا الأخير لعنة تطارد الفعل السياسي في تونس بأن يكون الظّلمُ قدرًا لا مفرّ منه…