منذُ إنقلاب 25 جويلية، صرت كثيرا ما أجدني في جدال عقيم مع معارفَ كنت فيما مضى أُجلّهم و أحترمهم. لكن بعد دقائق من الأخذ و الرّد، يتحوّل الإحترام تقريبًا إلى شفقةٍ و أقول في نفسي ما أحوج هؤلاء الذين تكلّست عقولهم و ضمائِرهم، و هم لا يشعرون، إلى قليلٍ من الشّكّ و التّجرّد و الموضوعيّة و كثير من نقد الذّات.
فمسكينٌ من أوصد عقلهُ و فكره أمام الشّكّ بإعتقاده أنّ الحقيقة الوحيدة التي تقبلُ التّصديق هي الحقيقةُ التي تنبعُ و تفيض من داخله هو، دونما تساؤلٍ عن مدى صدقيّتها و كيفيّة وصولهِ إليها و عواقب التّسليم بها. هؤلاء لا يشكّون أبدًا في ما يعتقدون بصحّته، لا شكًّا منهجيًّا و لا شكًّا مذهبيًا، فبالنّسبة لهم، كلّ آراءهِم هي حقائقٌ كونيّةٌ أزليّةٌ لا تشوبها شائبةٌ و هي خارجةٌ عن مجالِ الشّكّ و الرّيبة و المُساءلة و المُراجعة و النّقد.
هؤلاء لا يدركون أنّ مقاربتهم هذه هي مقاربة دُغمائيّة محضة، في مجال لا يستقيم فيه أن يكون المرءُ دغمائيّا. فالدّغمائيّون، بحكم التّعريف، هم أولائك الذين يعتقدون أن نظرتهم للأشياء تعكس الحقيقة المُطلقة و عليه هم ليسوا مستعدّين أبدًا لتغير آراءهِم حتّى و إن وُوجِهُوا بالأدلّة القاطعة و بالحُجَجِ الدّامغة.
ليس الإشكال في أن نكون دغمائيين في مناحي محدودة من حياتنا و لكن المعضلة هي أن نكون دغمائيّين كل الوقت أو، في أدنى الحالات، في موضوعات لا يستقيم أن نتناولها تناولاً دغمائيّيًا. مثلاً، كلّنا تقريبًا دغمائيٌّون عندما يتعلّق الأمر بالطّبّ، فنحنُ نصدّق الطبيب تصديقًا دغمائيّا و ذلك لأنّ شخصًا عاديّا، مهما أخضع حالته لنظامه الفكريّ العقلانيّ و أعمل فيها عقله، فلن يقدر، غالبًا، على الفهم و التشخيص و من ثمّة وصف العلاج. إذن، من وجهة نظر المريض العاقل،الدّغمائيّة هنا هي خيارٌ عَقلانيٌّ لأنّه يقبل دُغمائيًّا كون الطّبيب الذي أمضى جزءًا كبيرًا من وقته في تعلّمِ الطّبّ، هو أهلٌ لثقته.
الحقيقة إنّ الدّوافع المعرفيّة وراء تبنّي نظام معتقدات دغمائي في مناحي لا تنفع معها الدّغمائيّة، لا تزال مُبهمة. لكن في دراسة حديثة(*)، إستطاع الباحثون الوصول لنتيجة أن الأشخاص من ذوي الشّخصيّة الدّغمائيّة، حتّى و إن ثَبُتَ لهم أنّهم ليسوا متأكّدين تمامًا من آرائهم و من حقائقهم، هم لا يعبؤون كثيرًا بتوفّر الدّلائل الجديدة التي من شأنها رفع الشّكّ و اللّبس حول صحّة ما يعتقدونهُ. ذلك لأن المعرفة لديهم لا تنبني بالإستدلال المنطقيّ السّليم المُستأنِس بالمنهجيّة العلميّة الموضوعيّة، بقدر ما هي أحكامٌ مُسبّقةٌ و حدسٌ ذاتيٌّ لدَى المُعتَقِدِ يُظهِرُ المُعتَقَدَ و كأنّهُ حقيقةٌ بديهيّةٌ لا شكّ فيها.
فكأنّي بهؤلاءِ هم، فكريّا، أسرى أولَى مراحل التّفكير البايزي (Bayesian thinking). بمعنى أنّهم لا يتخطّون أبدًا مرحلة الأحكام المُسبّقة المبنيّة على إنطباعاتٍ أوّليّةٍ دونما إهتمامٍ بتحديثها، نحو الرّفض أو التّأكيد، بناءًا على ما يتوفّر لهم من معلوماتٍ و براهين لم تكن مُتاحة عند إنشاء تلك الأحكام المُسبّقة.
التّفكير البايزي المنبثق من الأنموذج\باراديغم البايزي للإحتماليّة أو الإحتمالات، ينبني على مبدأ أنّ ما نعتقده دومًا في الموضوعات التي تحتملُ الرّيبةَ، هو ليس بالضّرورة كل الحقيقة حول تلك الموضوعات. لأنّنا غالبا ما نبني إستنتاجاتنا إستنادًا إلى تجاربَ محدودةٍ و معلومات جزئيّةٍ و رؤيةٍ أوّليّةٍ غالبًا ما تكون ذاتيّة. لذلك من المنطقيّ و من البديهيّ و من الواجب على من يصبو إلى الحقيقة أن ينفتح دومًا على السّعي إلى تحديثِ و تحسينِ هذه الإستنتاجات كُلّما توفّرت بين يديه مُعطيات جديدةٌ أكثر دقّة و أكثر إكتمالاً.
الشّفقة التي أشعر بها تُجاه الدّغمائيّين في مواضع العقلانيّة ليست غُرورًا أو إحتقارًا للآخر. حاشى و كلاّ. و لكن، أليس كلّ من أوصد عقلهُ و لم يعد قادرًا على قول "لقد أخطأت" أو "لا أعرف" أو "لستُ متأكّدًا" هو مثيرٌ للشّفقة؟
(*) "Dogmatism manifests in lowered information search under uncertainty". Lion Schulz et al. Proc Natl Acad Sci U S A. 2020