كنتُ بيّنت في الجزء الأوّل ماهيّة الدّين العام و وضّحت الفرق بين الدّين العامّ الدّاخلي و الخارجي مع تعريج على المَخاطر التّي تنجرّ بالخُصوص عن تراكم هذا الأخير. في هذه التّدوينة سأحاول شرح بطريقة مُبسّطة كيفيّة تراكم الدّين العام.
نقطة البداية لفهم تراكُم الدّين العام هو مفهوم " مُعادلة قيود ميزانيّة الحُكومة" (Équation de la contrainte budgétaire de l'État). ما تقُولهُ هذه المُعادلة هو في الواقع شيء بسيط جدّا. هذه المُعادلة تعني بكلّ بساطة أن نفقات الحُكومة خلال سنة مُعيّنة لا يُمكنُها أن تتجاوز، بأي حال من الأحوال، قيمة العائدات في نفس تلك السّنة. العائدات تعني بالخُصوص عائدات الضّرائب.
النّفقات = العائدات
يعني لو فرضنا أن عائدات الضّرائب في سنة مُعيّنة هي 100 وحدة نقديّة، فالنّفقات الحُكوميّة من أجور و تكلفة التّسيير و غيرها لا يُمكنها أن تتجاوز نفس ال 100 وحدة نقديّة.
في الحقيقة، الأمور عل أرض الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك. فمثلا، في بعض الحالات تضطرّ الحُكومة لإنتداب موظّفين جُدٌد و لنفترض أن هؤلاء يُكلّفون ميزانيّة الحُكومة 5 وحدات نقديّة إضافيّة. في هذه الحالة يختلّ التّوازن بين النّفقات و العائدات لِوجود عجز. لذلك تتحوّل المُعادلة السّابقة إلى المعادلة التّالية :
النّفقات (100 + 5) > العائدات (100)
السّؤال هنا هو كيف ستُغطّي الحُكومة هذه النّفقات الجديدة (العجز) لِتُعيد توازن الميزانيّة علمًا أن مداخيل الضرائب هي 100 وحدة نقديّة فقط؟
يمكن تغطية العجز بطريقتين مُختلفتين. أولا بطباعة ال 5 وحدات نقديّة اللاّزمة أو باللّجوء للإقتراض. طباعة النّقود هو حل سيء لأنّه يضرّ بالإقتصاد عبر التضخّم و ينجرّ عنه إنخفاض قيمة العملة المحليّة. لذلك تلجأ الحكومات غالبّا للتّداين.
عمليّا تطرح الحكومة للبيع سندات بقيمة 5 وحدات نقديّة تشتريها البنُوك المحليّة و المُستثمرون الخواصّ و و تُضاف إلى العائدات و تُستعمل هذه النّقود لتسديد رواتب الموظّفين الجدُد. هذه العمليّة تُعيد التّوازن لمُعادلة قيود ميزانيّة الحُكومة التّي تصبِح كالآتي :
النّفقات (100 + 5) = العائدات (100 + 5)
الجديد هنا بالنّسبة للحكومة هو وجود دين بقيمة 5 وحدات نقديّة و تُمثّل عنصر جديد في الخُصوم (nouvelle rubrique du passif du bilan).
لفهم كيفيّة تراكم الدّين العام، فلنفترض، لتبسيط المسألة، أن الخمس وحدات نقديّة التي إقترضتها الحُكومة تُرجعها بعد خمس سنوات دفعة واحدة (أصل الدّين مع القسائم). يعني الحكومة لا تدفع أية قسيمة (coupon) خلال كل تلك السنوات. و لنفترض كذلك للتبسيط أن مداخيل الضرائب هي قارة و تساوي دائمًا 100 وحدة نقديّة. فلنتفحّص الآن على سبيل المِثال تراكم الدّين العام خلال ثلاث سنوات.
في كل سنة الحكومة لديها عجز في الميزانيّة يساوي بالضبط 5 وحدات نقديّة و عليها أن تُموّلها من خلال التدايُن بِبيع سندات جديدة. و بما أننّا إفترضنا للتبسيط أن الحكومة لا تدفع قسائم (coupons) خلال السنوات الأولى للقرض، فبعد ثلاث سنوات الدّين العام يُساوي مجموع العجز في الميزانيّة خلال هذه المُدّة. هذا يعني أنّ الدّين العام يساوي بعد هذه الفترة 15 وحدة نقديّة (5+5+5).
لاحظوا أنّ كُلّ ما قلته حتى الآن ينطبق فقط على الدّين الدّاخلي. فماذا عن الدّين الخارجي؟
في الحقيقة، نفس المنطق الذي إتّبعناه سابقًا ينطبق تمامًا على هذا الأخير. كُلُّنا يعلم أن صادرات تونس هي أقلّ بكثير من وارداتها. هذا يعني أن تونس لديها عجز ميزان تجاري (Déficit commercial) ينجرّ عنه عجز في ميزان المدفوعات (Déficit de la balance des paiements).
فلنفترض أنّ ما تملكه الحكومة من عملة صعبة لا يغطّي 100% من عجز ميزان المدفوعات و يبقى مثلا عجز ب7 وحدات نقديّة يجب تسديدها للخارج. هنا تتجه الحكومة غالبا لأسواق المال العالميّة لتبيع سندات مُقيّمة بالعملة الصّعبة لتقترض 7 وحدات نقدية.
بإتّباع نفس الخُطُوات السّابقة، و بإفتراض للتّبسيط أن عجز ميزان المدفوعات يساوي 7 وحدات نقديّة كل سنة، يمكننا رؤية كيفيّة تراكُم الدّين العامّ الدّاخلي و الخارجي. مثلاً، خلال ثلاث سنوات يصبح لدينا:
• مجموع الدّين الدّاخلي = 15 (5+5+5) وحدة نقديّة
• مجموع الدّين الخارجي = 21 (7+7+7) وحدة نقديّة
• مجموع الدّين العام = 36 (15+21) وحدة نقديّة
طبعًا أنا أبسّط المسائل كثيرًا هُنا و لكن الغاية من ذلك هو الوُصول للخُلاصة التي مفادُها هو أن الدّين العامّ ليس سوى تراكم عجز ميزانيّة الحُكومة (الدّين العامّ الدّاخلي) و عجز ميزان المدفوعات (الدّين العامّ الخارجي).
في الجزء التّالي سأتتطرّق إلى مفهوم المديونيّة و كيفيّة تقليصها.