الموظفون الثلاثة المعزولون من وزارة الثقافة في عهد الوزيرة السابقة وما يزال وضعهم يراوح مكانه حتى بعد التغيير الذي حصل على رأس الوزارة، هل كانوا يتوقعون أن تبادر الوزيرة الجديدة بمجرد أداء القسم إلى رفع المظالم المنسوبة إلى سابقيها؟
الناصر بن عمارة وخالد الهداجي، وأمامة الزائر، يشهد كل من يعرفهم أنهم من خيرة أبناء وزارة الثقافة وأن ما حدث لهم مظلمة حقيقية، ولا يحتاج التضامن معهم إلى تأكيد، فهو واجب إنساني ومواطني تحت سقف هذا السجن الكبير المفتوح على كل الاحتمالات، لكنها مناسبة أفكر فيها معهم بصوت مرتفع معربا عن خشيتي من أن تكون الأمور أعقد بكثير مما يتصورون.
أقول لهم ذلك عن تجربة لي مشابهة مع مؤسسة عمومية أخرى لا فائدة في ذكرها، فالأمر سيان في كل المؤسسات: إن قضيتهم ليست مع الوزيرة التي عزلتهم، بل مع الوزارة التي رضيت بذلك، وساعدت في تحقيقه. فالوزير الذي يريد أن يعزل موظفا ويتخلص منه لسبب من الأسباب الذاتية غالبا، سيجد بين يديه فيلقا من الإداريين المتطوعين لإلباس عملية الطرد حلة قانونية محكمة ومناسبة، قد تعجز حتى المحكمة الإدارية عن الطعن في وجاهتها فما بالك بمن سيأتي بعده!
ولكم أن تتخيلوا كيف سيكون الوضع عندما تحيل الوزيرة الجديدة التظلم الذي تقدمتم به إلى فريق الوزارة القانوني من أجل إبداء الرأي والإفادة حتى لا يكون قرارها فرديا تحاسب عليه، والحال أن ذلك الفريق هو نفسه الذي صاغ المظلمة بعناية وحاك خيوطها بدقة وأنضجها على مهل بطلب من الوزيرة السابقة. إن العدول عن قرارات الطرد قرار سياسي بامتياز، ولم يتخذ إلا في سياق ثوري، والإدارة العميقة لم تذعن إلا وهي في أضعف حالاتها، حين أدمجت بعد الثورة أشخاصا لم يقوموا بأي وظيفة منذ عشرين عاما، بل مكنتهم من الوثب بخفة على السلم الوظيفي، وخولت لهم ترقيات لم ينلها الموظفون الحقيقيون.
لقد أتيح لي الاطلاع على قوانين الموارد البشرية في بعض الدول العربية الأخرى التي يتباهى التونسيون دائما بأنهم أكثر ديمقراطية وحداثة منها، وانتبهت إلى أن مجالس التأديب فيها تتشكل وجوبا من أشخاص مستقلين تماما عن المؤسسة نشدانا للعدل والإنصاف، فشتان بين مجالسهم ومجالسنا التي ينتصب فيها الزملاء قضاة وحكاما ومستشارين، وقد تكون تلك المجالس مناسبة للكثير منهم للتنفيس عن أحقادهم وشرور أنفسهم دون خشية من أحد.
أرجو صادقا أن تتفاعل الوزارة مع مطالبكم واحتجاجاتكم وأن تسفّه الأحداث كل توقعاتي عن (الإدارة العميقة) التي لا تتغير مهما تغير الوزراء، فهي تعجّ بحملة المباخر والكهان من كل صنف، وفيها لاعقو أحذية ممتازون لا يشق لهم غبار ومتزلفون بارعون وآخرون يعتنقون ديانة (الشرّ للشرّ) بما يجعل البيئة الإدارية عندنا أكثر عدوانية من أي غابة، رغم ترسانة القوانين التي تسيرها والتي لا تستخدم غالبا إلا في التقييد والمنع وإلحاق الضرر بالموظف. وأرجو ألا يكون الحمار قد أكل اليقطينة كلها!