ما إن سئل الرئيس عن قصر المرمر حتى انبرى يقول كلاما غير مفهوم، ويحاول أن يصوغ جملة واحدة مفيدة بلا جدوى... لم يكن يفتعل ذلك أو يتهرب من السؤال كما يفعل السياسيون عادة عندما يلوذون باللغة الخشبية (وهي عموما لغة فصيحة) لكنه كان فعلا في مأزق حقيقي!
ظل الرئيس دقائق يردد جملا غير مفهومة، فبدا كمن ضاع في متاهة ولم يجد باب الخروج. كان يتأتئ كمن يصارع أمواجا عاتية في عرض البحر، وفجأة عثر على عبارة (الفساد) فتعلّق بها لحظات ثم أفلتها من يده وأخذ يتحدث عن المغنين الأجانب الذين كانوا يأتون إلى القصر للاحتفال بعيد ميلاد الرئيس في ذلك الزمن الذي مضى، وكان لزاما على كل من يصغي إليه أن يترجم التأتأة والفأفأة ويملأ الثغرات لعله إن فعل يعثر على أول خيط في كُبّة الإجابة، إن كان قد فهم السؤال أصلا!
وما قصر المرمر هذا الذي أوقع الرئيس في ورطة لم يقع في مثلها من قبل؟ إنه قصر الرئاسة بسقانص في المنستير، بناء ذو هندسة معمارية مميزة كان الرئيس الحبيب بورقيبة يقيم به صيفا، وفي أكنافه بناءات مخصصة لضيوفه من كبار الشخصيات، وتحيط بهذه البناءات مساحة خضراء شاسعة. قسمها الرئيس زين العابدين بن علي منذ ربع قرن إلى أراض صالحة للبناء، فصار القصر رغم أهميته التاريخية خرابة حقيقية مهملة وسط مشروع عقاري خاص، وإذا كان هذا الإجراء هو المقصود بعبارة الفساد، فقد اعترض البعض آنذاك ومنهم الأستاذ محسن البواب رحمه الله وهو من هو في المنستير، وقال كلمته في وقتها حين كان كثير من (محاربي الفساد اليوم) صامتين عن الحق، ويفسرون محاسن تعديل الدساتير!
الرئيس المنصف المرزوقي هو الذي جعل القصر متحفا، فأصبح مزارا سياحيا وثقافيا، لكن الفضاء الخارجي المحيط به ظل على حاله مهملا، ويشمل النافورة وبنقالوهات كبار الضيوف التي أصبحت وكرا للفساد ومصبا هائلا للفضلات، لا سيما بعد تعثر المشروع العقاري بسقوط دولة الفساد (كما قيل في التلفزيون). وأصبح المشهد مزريا أكثر من ذي قبل. وفي تحقيق تلفزيوني للصحفي النبيه حليم الجريري بدا أن الفوضى والإهمال اللذين أصابا هذا المعلم سببهما تعدد المالكين وتنوع المتدخلين وضبابية الصبغة القانونية الراهنة لهذا المعلم التاريخي.
يبدو أن سوء تفاهم قد حصل عن حسن نية، فالسائل تجنب مواضيع الساعة واختار سؤالا قدر أنه لا ضرر منه، لكن من الواضح أن المجيب لم يكن مستعدا إلا لتلك الأسئلة فأجوبتها جاهزة لديه يكررها كل يوم، فكان هذا المشهد الذي يسيء إلى المواطن قبل أن يسيء إلى الوطن، لأن هيبة الدولة من هيبة الرئيس في كل الأنظمة سواء أكانت ديمقراطية أو استبدادية. وارتجال المؤتمرات الصحفية بهذا الشكل يشبه اللعب بكرة من نار.
وأمام مشهد كهذا لا يدري أحدنا أيشفق أو يتهكم أو يشعر بالغبن. فالرئيس كان يتكلم في حضرة روح الزعيم الحبيب بورقيبة "رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه، والبلاغة يأمرها فتطيعه"، رجل لا ينكر أحد في الكون أنه نموذج فذ في الاتصال المباشر والخطابة، فحمدا لله الذي قال (جلّ من قائل) في محكم التنزيل: وما أنت بمسمع من في القبور..."