عند مدخل روضة آل بورقيبة، حطم أحد مستقبلي رئيس الجمهورية في ذكرى وفاة الزعيم هذا العام كل الأرقام القياسية في التزلف والتملق وابتذال النفس، وقدم درسا لن ينساه كل من شاهده في الانتهازية والصفاقة والوصولية. كان أحد الواقفين في الطابور المخصص عادة للمسؤولين الجهويين وقدماء المحاربين وأعيان المدينة، وقد درج البروتوكول الرئاسي على أن يصافح الرئيس هؤلاء المستقبلين، وأن يمنح الوقت الأكبر للمناضلين تقديرا لمكانتهم وانسجاما وطبيعة المناسبة، ومن النادر أن يستغل أحد المسؤولين هذا الطابور للتعري بشكل فاضح!
هذا المشهد ليس غريبا عن حياتنا السياسية منذ عهود، فالوصوليون يعرفون أن الاستقبالات الشعبية هي أفضل الأوقات لممارسة الوصولية وتملق الحكام، وكانت لجنة التنسيق ومصالح الولاية تحرصان على اختيار مستقبلي الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي بعناية فائقة، حيث كان ترتيب الواقفين في حديقة الروضة الأمامية يخضع إلى جملة من الاعتبارات السياسية والاجتماعية، وكان الحصول على استدعاء للوقوف في ذلك المكان ساعة دخول الرئيس من الأهداف التي يبذل فيها كثير من (مناضلي) الجهة الغالي والنفيس.
وتحتفظ الذاكرة الشعبية بقصص عديدة عن قضايا شخصية لم يتوصل أصحابها إلى حلها الا بالارتماء بين يدي الزعيم الحبيب بورقيبة، واغتنام فرصة لقائه ومصافحته لا سيما وهو في (كامل مشمشه) خلال احتفالاته الصيفية المطولة بعيد ميلاده حيث كان يجزل العطاء ابتهاجا بما شاهده واستمع إليه في العروض الثقافية اليومية التي تقدمها كل ولايات الجمهورية تحت شعار (فرحة شعب) والتي تتألف عادة من عروض موسيقية وحفلات سلامية وعكاظيات شعرية.
وفي كل وضعيات التملق والتزلف كان الرؤساء يعرفون أكثر من غيرهم وضاعة من يقفون أمامهم وخستهم. يروي الزعيم بورقيبة في إحدى محاضراته كيف حظي باستقبال شعبي عندما أطلقت سراحه قوات المحور في الحرب العالمية الثانية وأعادته إلى تونس، وكيف صاح أحد مستقبليه: (يحيا موسيليني) واضعا إياه في حرج، وهو الذي دعا إلى عدم مناصرة المحور انتقاما من فرنسا!!، وكل الرؤساء الذين حكموا البلاد يعرفون (بعد فوات الأوان) أن شعار (بالروح بالدم نفديك يا زعيم) هو أكبر أكذوبة تفنن في صنعها هذا الشعب عبر تاريخ طويل وحافل بشتى أنواع التملق والوصولية.
ليس غريبا أن ينتهز مسؤول صغير الفرصة كي يتملق رئيس الجمهورية طمعا، لكن الغريب في الأمر أن تحتفظ مصالح الإعلام في الرئاسة بهذا المشهد في الفيديو الذي يوثق زيارة الرئيس، فمن السهل حذفه في المونتاج، واختيار اللقطات الأكثر إفادة، وتجنب كل ما يمكن أن يظهر الرئيس وهو في حالة انتشاء بتملق رخيص لا يصدقه أحد، كان يمكن اختصار المادة المصورة بدل وضعها كاملة بكل ما فيها من (أشياء) لا تستحق أن تلقى رواجا بين الناس، فقضية التملق محسومة منذ سنين، واختصرها الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي ليلة رحيله من تونس إلى السعودية في عبارة بليغة لم يقل مثلها طيلة سنوات حكمه: غلطوني! وسيحاسبون!
أفلا تتعظون؟!