اذا سلمنا جدلا مع عرَّابي الثورة المضادة انه" ليس لفترة العشرية "السوداء" اي انجاز"، فلا احد بامكانه نفي ما عاشه التونسيون بمختلف شرائحهم من حرية الاحتجاج سواء كان منظما او منفلتا، سواء كان حرية حقيقية ام فوضى…
في هذه العشرية- التي انقلب عليها المستفيدون منها انتخابيا- استنطق فيها التونسي كل ما في دواخله من قدرة على مجابهة السلطة .. الى درجة ابتذال الدولة…وتدرب فيها على كل اشكال الاحتجاج بما فيها غير المشروعة كالاعتصامات في مواقع الانتاج والعمل وقطع الطرقات…واحتجاز الوزراء في مكاتبهم ومطاردة قوات الامن في الشارع!!
سؤالي: هل هذا "التربص المغلق" او "المعسكر" (كما يقال في المشرق) والتدرب المكثف على الاحتجاج - بعد قرون من وضعية الرعية الخانعة- وشق عصا الطاعة على الدولة، ذهب هباء منثورا بعد استرجاع السلطة مخالبها وبعد ان قلبت ظهر المجن للديموقراطية التي تبنتها في حدودها القصوى!!؟؟
الجواب مما يلي:علمتنا التجارب ان الشعب التونسي لم يتوقف عن الاحتجاج حتى خلال اشد مراحل بطش السلطة ..
لكن الملفت ان اشكال الاحتجاج تأخذ احيانا صورا غير مسيسة وغير معبر عنها بلغة سياسية واضحة ..وغير معلنة عبر خطاب او تنظم سياسي محدد، فتظهر اما في الملاعب الرياضية (العنف في الملاعب) او في استشراء حالات الاستعصاء على الالتزام بالقوانين (الاسواق ، البناء ، التهريب، استشراء جرائم الحق العام) …وهي جميعها مظاهر "تنغص" على السلطة اريحيتها في كبح جماح شعب انتفض عليها في يوم ما…
هذه الاشكال من الاحتجاج "غير المسيس" وغير الظاهرة latentes كما تقول المدرسة الوظيفية، هي اخطر بكثير من الاحتجاج السياسي نظرا لقدرتها التدميرية للدولة والمجتمع في آن واحد …
في هكذا وضع لا يجد النظام المتسلط مقدرة ولا جبروت الا حيال السياسيين المعارضين …فهم الصيد الاسهل ..مقارنة بغيرهم من "المحتجين" من مجرمي الحق العام، الى جماعة الفساد المنظم، الى بلطجية وهوليغانز الملاعب الرياضية ..
وهذا ما يحصل اليوم تقريبا: تفنن واقتدار في التنكيل بالسياسيين المعارضين ومحاكمتهم ، مقابل عجز تام عن مكافحة الجريمة وعن الحد من ظاهرة العنف في الملاعب وعن كبح جماح المتلاعبين بمسالك التوزيع والمحتكرين…. وحتى منظمي الهجرة السرية اشتد عودهم اكثر في هذه "الحقبة الايطالية " التي لاشك ان القائد الروماني "شيبون الافريقي"، مدمر قرطاج ينتفض فرحا بها في قبره بعد ان استحضرته حفيدة الفاشية الحاكمة في ايطاليا جيورجينا ميلوني ..
لكن لقائل ان يقول حتى خلال الفترة الديموقراطية لم تتم السيطرة على هذه الظواهر ..
عن ذلك نجيب بالقول:
اولا :الارقام تتكلم …الهجرة السرية والاحتكار والتهريب والنقص في التزويد والجرائم الاقتصادية تضاعفت بعد 25 جويلية..
ثانيا : الفترة الديموقراطية سمحت لكل الشرائح في المشاركة في تحديد المصير من داخل ومن خارج السلطة (النقابات والمجتمع المدني) بما كان يهيئ لوضع سياسات توافقية تستجيب لحد معقول لظواهر الاحتجاج ..وهي تساهم على المدى البعيد في التحكم في الظواهر الاحتجاجية وفتح باب الامل لشرائح هامة من اليائسين…
لقد احبط الانقلاب على الديموقراطية ارهاصات اولى لتشكل مشترك مجتمعي في جميع المجالات (شبه اجماع على تبني الدولة الاجتماعية (يقابله اليوم ركون الى الليبرالية المتوحشة)، اجماع على نبذ الاسلام الجهادي العنيف (يقابله اليوم خيبة امل صقور الاسلام السياسي او ندمهم على تبنيهم الديموقراطية) ، اجماع مطلق على حرية التعبير والصحافة (يقابله اليوم اعلاميين في السجن) ، اجماع على استقلالية القرار الوطني (يقابله اليوم ..مانيش باش نقولها بسبب المرسوم 54، اجماع على اهمية المجتمع المدني، يقابله اليوم اعلان رسمي عن موت المجتمع المدني ورفض مقنن للأجسام الوسيطة…) .
هذا المشترك الجمعي الذي كلن في طور النشأة، هو الدعامة الاساسية لكل الديموقراطيات الناجحة( مثل اجماع المجتمعات الراسمالية على الفردانيةindividualisme التي شكلت" الاسمنت المسلح" لاستقرار تلك الشعوب… ).
في كلمة اذا تواصل النهج الانفرادي في السلطة، فاعلم ان ردة الفعل الشعبي ستخلد الى مظاهر الاحتجاج غير السياسي العنيف …مما سيكون معه همُّ النظام هو المحافظة على السلطة فقط مهما كان الثمن..على حساب التنمية ..فنعود في كل مرة الى حالة 26 جانفي و 3 جانفي وحوض منجمي و17 ديسمبر و14 جانفي…
بالفلاقي …الشعب هذا …ما ينجم يحكم فيه كان ربي ..وهو شعب imprévisible …ينفجر بدون انذار مسبق…ويصفق لجلاده قبل ان ينقض عليه …
واللبيب من اتعظ بالتاريخ ..التاريخ الذي هو" محكمة العالم"كما يقول Schiller …وهيغل…