شاءت الأقدار (على حدّ قول الرئيس) أن يموت ثلاثة شبان بسقوط حائط مدرسة ورغم وجود متضررين آخرين في المستشفى فإنّ الإحساس العام بالتراجيديا الإنسانية العميقة التي تنطوي عليها الحادثة سرعان ما تبدد أمام الكوميديا السياسية التي عقبتها، وهي كوميديا سوداء لن تميزها عن التراجيديا في شيء لأنك لا تدري وأنت تشاهدها أتتطهر من مشاعر الغضب واليأس والإحباط التي تفور داخلك بالضحك أم بالبكاء؟
فأمام هول الكارثة سارع بعض صغار الموظفين في مناطق مختلفة من الجمهورية إلى هدم الجدران الآيلة للسقوط في مناطق نفوذهم تحسبا من أن (تشاء الأقدار) مرة أخرى وتسقطها على رؤوس الناس، ولم ينقل لنا أحد خبر الشروع في ترميم جدار واحد، بل سارع الجميع إلى الهدم ولسان حالهم يقول: (الحيط اللي يجيك منو الريح، هدوا واستريح). وقد حدث هذا في زمن شعاره السياسي الكبير: البناء والتشييد!
وبينما نحن نتأمل أحوال هذه البلاد التي اتضح أن كل جدرانها ومبانيها آيلة للسقوط ومرشحة للهدم بمعاول السلطة ذاتها تحت طائلة الخوف من الأقدار، جاءت الزيارة الرئاسية (غير المعلنة) فجرا إلى موقع الحادثة، وجاء سؤال الرئيس: (أين هو الإعلام حين زرت المزونة فجرا؟) وانقلبت الآية، وبدل أن يسأل الصحفيون الرئيس صار هو الذي يسألهم ويتساءل عنهم في لهجة لا تنم فقط عن الغضب، بل تلمح إلى ما هو أبعد من التهاون!
انقلبت الآية في بلد انقلبت فيه أشياء كثيرة، منها توقيت عمل مؤسسة الرئاسة! فقد صار معروفا الآن أن النشاط الرئاسي يقع بين صلاتي العشاء والصبح، وهذا مخالف لمنطق (دولة المؤسسات) التي تفترض أن الرئيس مواطن انتخب للقيام بوظيفة داخل مؤسسة مقابل أجر، وانتقلنا من نظام محوره المؤسسة إلى نظام محوره الشخص، ولذا فإن أبسط إجابة عن سؤال: أين كان الإعلام عندما زرت المزونة فجرا؟ لقد كنا نائمين يا سيادة الرئيس!
ليس هذا هو سوء التفاهم الوحيد الذي رشحت عنه زيارة الرئيس إلى المزونة فجرا، فلو تأملتها من زوايا مختلفة ستجد أكثر من (سوء تفاهم) سنتوقف هنا عند إثنين فقط: الأول يتعلق بعملية (كنس العملاء والخونة) من ساحة الزيارة قبيل قدوم الرئيس، والتي لا يفهم منها إلا استبعاد معارضي المسار، والمعارضة لم تكن في يوم من الأيام خيانة! أما سوء التفاهم الثاني فنجده في الحوار الذي دار بين الرئيس و(المخلصين الأوفياء) الذين تحلقوا حوله هناك يتصايحون (نحبوك يا سيادة الرئيس) فهم يطالبونه بفتح معمل البلاستيك وهو يقول لهم اعملوا شركة أهلية!
منذ انتخاب قيس سعيد رئيسا ونحن نشهد مباراة في كرة التنس عجيبة: الشعب يطالبه بإيجاد الحلول وهو يطالب الشعب بالقيام بذلك. وزيارة المزونة التي تشبه كثيرا زيارات مماثلة إلى مناطق الداخل رغم الظرف المأسوي الذي حدثت فيه جزء من حملة انتخابية لا تنتهي، تتطاير فيها الشعارات والوعود في الهواء دون إجراءات عملية وقرارات عاجلة النفاذ، وفي الأثناء تراوح الدولة مكانها وتتهاوى جدرانها على ظهور أطفالها ولو قال قائل: إنها آيلة للسقوط، لتجاوز الخطوط الحمراء وما أكثرها دون أن يدري!