الفساد... هذا الثور الهائج

Photo

تابعت التسريبات الأخيرة والتي تؤكد ما كنا حذرنا منه منذ سنين بضرورة السيطرة على القنبلة قبل انفجارها المدوي والكارثي. الوثائق التي سيتم الكشف عنها تباعا هي أدلة اضافية للجرائم المرتكبة بحق عديد البلدان والشعوب .

ان جرائم الفساد بمثابة السمّ القاتل الذي يقف عائق أمام التطور الاقتصادي والتنمية وفي الغالب ينتج عنها فقر ودمار اجتماعي وبالأخص عندما يختلس قادة سياسيين الأموال من بلدانهم وربما يحاولون تشريع قوانين تتساهل مع الفاسدين والمفسدين و تبيح لهم التلاعب بثروات ليست من حقهم وإنما من حق أفراد المجتمع. ان هذا الكم من الوثائق المعلن عنه يخص شركة واحدة وفي بلد صغير واحد . فالوثائق سربت من شركة "موساك فونسيكا" التي تتخذ من بنما مقرا لها وتتخصص في تأسيس شركات المعاملات الخارجية (أوفشور) وهي واحدة من ألاف الشركات المنتشرة عبر العالم .

لاشك بأن بنما هي واحدة من البلدان التي تعتبر وجهة مفضلة للتهرب من الضرائب ولكن مطلوب من التحقيقات الجدية ان تشمل الجزر البريطانية العذراء و الباهامس وسيشيلز و نيو اضافة الى لوكسمبورغ و النمسا وهونغ كونغ التي بقيت قوانينها تساعد على التهرب الضريبي كما أن بعض الولايات الأمريكية تطبق السرية المصرفية بشكل مطلق.

ففي ولايات نيفادا وداكوتا الجنوبية وأيومنغ وديلاوير توجد "ملاذات ضريبية امنة". مهم التذكير بأن إنشاء الشركات في "جزر الملاذ الضريبي" ليس جريمة بحد ذاته، ولكن الجريمة أن تكون الشركة تستغل لتبييض الأموال وصفقات سلاح ومخدرات والتهرب الضريبي. ان البلدان التي تحترم نفسها وشعوبها أعلنت عن فتح تحقيقات قضائية في وثائق بنما وهذه التحقيقات يجب أن تندرج تحت بند الفساد و الكسب غير المشروع والتهرب الضريبي ، ومطلوب من البلدان الموقّعة على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد أن تتعامل بشفافية مطلقة وبجدية عالية مع كل الملفات التي تخصها.

انه لأمر صحي وسليم أن تسارع السلطات في تونس الى فتح تحقيق اسوة ببلدان عريقة في الديمقراطية والشفافية ولعل هذا سيكون مدخل حقيقي لمحاربة الفساد المستشري في عديد القطاعات والهيئات والمراكز البحثية .

ولسائل أن يسأل هل بإمكان المشرع الزام المسئولين الحزبيين في الحكومة والمعارضة بالتصريح على ممتلكاتهم هم وذويهم ؟ هل من اليات لمراقبة عمل وتمويل المؤسسات والمراكز التي لها امتدادات خارجية ؟ ما هي الأليات التي سيتم اتباعها لتثبيت العدالة ومعاقبة المخالفين ؟ هل لدينا منظومة قضائية قادرة على فتح كل الملفات المسترابة وتعالجها بما يتماشى والقوانين الجاري بها العمل؟ هل المنظومة التشريعية قادرة على مواكبة التطورات وسد الثغرات من أجل تقوية ومناعة الدولة؟

الكل يتحدث عن الفساد وضرورة مواجهته الكل يشير الى التآمر الخارجي وضرورة الدفاع عن استقلال البلاد الكل يرفع لواء "القرار الوطني السيادي" الكل يتبرأ من التمويل الأجنبي الكل يعلن النزاهة ونظافة اليد لاشك بأن الجميع وراء القضاة الذين سيشتعلون على هذه الملفات وسيتعاونون معهم بما يساهم في كشف الحقائق وهذا سلوك راقي وحضاري.

وأنا على يقين أنه لو تم هذا فعلا فان "الديمقراطية ألتونسية ستوجه ضربة قوية وقاسمة للذين يتطاولون على الدولة ويراهنون على ضعفها لمزيد اضعافها . من المهم انتظار نتائج التحقيقات القضائية وعلى الجميع الحرص على عدم التلاعب بنتائجها أو تأويلها ومن المبكر جدا الحكم إن كان هناك مخالفات قانونية تخص الملفات والأسماء التي سيتم الإعلان عنها تباعا خلال الأسابيع والأيام القادمة.

اصبح من العبث الحديث عن صحة الوثائق بعدما أكد رامون فونسيكا -أحد مؤسسي موساك فونسيكا- صحة الوثائق التي ورد ذكرها في التحقيقات التي نشرتها مئات الصحف، معترفا في الوقت ذاته بحدوث اختراق ناجح لكنه "محدود" لقاعدة بيانات الشركة. مما يعني بأن المتداول هو جزء مما لدى الشركة ويؤكد حجم ما يتم تداوله لدى هذه الشركات . ومعلوم أن التهرب الضريبي يكلف حكومات الاتحاد الأوروبي فقط قرابة تريليون يورو سنويا وأن القيمة التقريبية للأموال التي يتم وتشغيلها بهذه الطريقة تقارب 50 تريليون يورو وبالتالي لن تختفي مناطق " أوفشور" كظاهرة إنما ستجري عملية إعادة توجيه للتدفقات المالية بما يخدم مصالح أخرى ودول أخرى وللتذكير فان الولايات المتحدة الأمريكية تمكنت في السابق من تقويض مبدأ سرية الودائع في سويسرا التي باتت اليوم ملزمة بأن تقدم إلى السلطات الأمريكية كل ما تطلبه من معطيات عن المواطنين الأمريكيين.

والأمر نفسه، نفذ مع الدول الأخرى. أما في أوروبا فان النمسا ولوكسمبورغ تواصلان الدفاع عن السرية المصرفية وتضعان عراقيل أمام خطط تحقيق تقاسم أكبر للمعلومات داخل الاتحاد الأوروبي بشأن أصحاب الحسابات المصرفية أو عائداتهم، وهو إجراء يستهدف الإيقاع بالمتهربين المحتملين من دفع الضرائب. وتتخوف الدولتان من أنهما قد تخسران جاذبيتهما كوجهات للبنوك إذا ما أجبرتهم القوانين في الاتحاد بالألتزام بما تم الاتفاق عليه مع مراكز مالية في الخارج مثل سويسرا.

وأنا أتابع ردود الأفعال المختلفة لم أجد أبلغ من أبيات ميخائيل نعيمة للتعبير عن شعور الواثق من نفسه في محاربة أفة الفساد المركب وكل أملي أن يتمعن كلماتها كل من عليه شبهة فساد حتى يتصدى لهذا الغول وهو متسلح ويقف على أرضية صلبة :

سقف بيتي حديد

ركن بيتي حجر

فاعصفي يارياح

-وإنتصب ياشجر-

واسبحي ياغيوم واهطلي بالمطر

واقصفي يا رعود –

لست اخشي خطر

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات