يظلّ الإنسان العاقل المتبصّر يبحث ويفكّر ويعبّر ويسعى محاولا فهم كنه الحياة متدبّرا الآيات والبراهين مترصّدا الإشارات والنفحات متصيّدا العبارات والكلمات لعلّه يعثر على سرّ الحياة ومعناها ويتحقّق بذاته ويتوازن ولكن بحلول الموت في مسرح الحياة وسلبه للأرواح وقبره للأحلام والأماني والأجساد يفقد المرء توازنه ,
فحضور الموت قانون ليعيد الإنسان تنظيم وترتيب أفكاره ويدفعه معنى الموت للغوص في أعماق ذاته وتبيّن المعاني وروحها وفرزها من رسوم المباني وزيف الاشكال والظاهر, فالموت باب الآخرة والولوج للدّاخل يتمّ بنزع لباس الدّنيا ومفارقة الرّوح للبدن.
1-الموت حقّ :
يبقى الموت الحقيقة الثّابتة الجاثمة على القلوب والعقول واللّغز المحيّر للألباب ينسى بغيابه ويبرز بطلّته وتغييبه للأقارب والأحباب والأصحاب والجيران, فالموت حقّ ولا مفرّ منه ليحيل سعي الإنسان وشعوره وكلامه وبيانه إلى مجرد ذكرى حين يطرحه جثّة هامدة لا حراك لها بسلبها الرّوح فتغلق عينه عن عالم الدّنيا إلى الأبد ويغيب شبحه وخياله وشخصه وتفتح عين وجوده لعالم الغيب ليكتشف الحقائق المحجوبة لأنه قد كشف الغطاء عنه فالزّمان غير الزّمان الدّنيوي والحال غير الحال.
لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (سورة ق آية22) كل ما على التّراب إلى الترّاب ولا بدّ للزّرع من حصاد والموت يحصد الأرواح لإنّ الرّوح وديعة وسوف تسلب كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام ( سورة الرحمان آية 26 و27 . )يغلب ظاهر الإنسان باطنه وشكله يحجب معناه فهو روح في جسد قلب في قالب يستمتع بوجوده وتسبق شهوات جسده الفانيّة معاني روحه الباقيّة ,فالدّنيا قالب الجسد سجن للرّوح والموت يخلّص الرّوح من الجسد لتفارقه إلى عالم الآخرة ويواري الجسد التّراب فما كان من التّراب إلى التّراب ماض وسائر.
2-الدّنيا والاخرة:
الدّنيا قبل والآخرة بعد ,في الدّنيا حياة البشر ونسج أحلامهم وسعي لتحقيق آمانيهم وكذلك موتهم وقبورهم والدّنيا ظاهر وباطن ظاهرها الأشكال والمباني والصّور وباطنها المعاني والأرواح والأسرار . الدّنيا مراحل ودورة حياة والموت نهاية المسار , "وهذه الدار لا تُبقي على أحد ولا يدوم على حالٍ لها شان ". مادام في الدّنيا مآسي ومصائب وفشل وكبوات وفراق ووداع. .
يولد الإنسان بعد أن كان جنينا في بطن أمّه وإذا إستمرّت حياته ينتهي شيخا هرما عليلا , يمرّ بأطوار فمن غريزته وفطرته إلى عقله وهواه ونفسه ونرجسيته وكلّ على قدر كمال عقله وثبات حقيقته يحقّق ذاته ويتجرّد بمعناه. يحقّق الإنسان في حياته وظيفة التّغذية بإمتياز تشاركه في ذلك سائر الكائنات الحيّة الأخرى وقد يتكاثر مخلّفا الأبناء والأحفاد ,إذ الدنيا مجال سعيه وحركته وإنجازاته وتحقيق أحلامه وآماله وتغشاه الدّنيا بغشاوتها وتاسر نفسه وتستوعب كيانه وتتعلق كل أحاسيسه الشعوريّة بما هو دنيوي فاعضائه الحسيّة تستقبل شتّى التنبيهات والمثيرات .
الدّنيا مسار الإنسان وسياقه ونسق حياته وهو المتغيّر التّابع للدّنيا وظروفها ,يتعرّض الإنسان في حياته إلى ثالوث سيف الزّمان ومطرقة الآفات وقوس الموت ولا مفرّ من هذا الأخير فلا ملجأ ولا حيلة للإفلات منه.
الزّمن ذاك المتغيّر المستقّل يؤثّر ويحدّد سلوك ومصير الإنسان فيبلى الجسم ويهرم ويقرّب الآجال فيودّع في بادئ الأمر طفولته وبراءته ثم شبابه وتحلّ مرحلة الكهولة ثم الشّيخوخة ليفقد عديد المزايا فتقلّ حيويته ونشاطه قد يكتسب نضجا وخبرة ومعرفة ولكن في المحصلة قد ودّع زهرة الحياة بدون رجعة فما فقده لا يرجع.
الآفات والأزمات والبلايا هي كملح الأرض لا تخلو منها الحياة لضعف الإنسان وعجزه وتعدّد الظروف وتضارب المصالح وإختلاف الأهواء وتعدّد الأسباب والمسبّبات ولتغيّر الأحوال في دنيا المتغيّرات . الموت ينهي رحلة الحياة ويفتح باب الآخرة ويغلق باب الدّنيا إلى الأبد.
أمّا الآخرة فالبعد الاخر والوجه الاخر لحقيقة الحياة فسيقابلها الإنسان بكيانه وروحه ونفسه اليقظة لا الساهيّة ,قد يغيب كيانه الحقيقي وجوهر روحه وحقيقة نفسه ومعناه في الدّنيا ليكتشف حقيقة ذلك في الآخرة ولهذا فالآخرة الأصل والدّنيا فرع والآخرة مقرّ والدّنيا ممّر فالدّنيا عمل بلا حساب والآخرة حساب بلا عمل.
الآخرة الحقيقة أمّا الدّنيا فجزء من الحقيقة وإنعكاس لبعض معاني الآخرة وأبعادها ذلك لمن وعى سرّ الوجود ومعنى الحياة,والموت جسر من الدّنيا إلى الآخرة فالآخرة محجوبة بالدّنيا والدّنيا حجاب للنّفس عن مطالعة الغيوب ولا يستمدّ اسرار ومعاني الاخرة إلاّ من عالم الغيب والوحي المبين .
"3- وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا ":
شتانا بين علم الرّحمان وعلم الإنسان قد يغترّ الإنسان ويتوهّم ويحسب نفسه أنّه يحسن صنعا فيطلق فرضياته وإحتمالاته وتصوراته ويقدّمها على أنها حقائق يقينيّة أو نظريات علميّة فيا لها من لوثة الخيال والهوى والأوهام وغشاوة وظلمات النّفس والقلب والعقل . هذا المخلوق في الحقيقة ما وعى حقيقة ذاته وما تبصّر نقائصه وعيوبه فالإنسان بالضعف والعجز موصوف لا يحيط إلاّ بما يحيط به بصره وسائر حواسه ,فعالم الحسّ مجاله ومداره وأدواته الأعضاء الحسيّة ونواتجها أحاسيسه الشعوريّة وسلوكياته.
فكيف لهذا المحاط أن يحيط بما لم يحط به علما وما هو غائب عن دائرة حسّه محجوب عنه فيجزم بتمثلاّته وإحتمالات يعتقدها يقينيات من بنات افكاره وأوهامه وتخميناته بقياسات ومقدّمات خاطئة ومنطق أعرج سخيف سقيم غير سليم وتزييف للحقائق وتأويل للشواهد ؟
قد غلب هواه عقله فسبح في بحر الخيال والأوهام وأنكر ما غاب عنه من حقائق إغتالته اللّحظات والخطرات وأحاطت به الدّنيا من جميع جوانبها فأفقدته السّيطرة على أحاسيسه وأفكاره لتطفو غرائزه وعقده وعواطفه وهوى نفسه لتتزايد بذلك إنفعالاته وأفعاله.
قد يعلم الإنسان بإجتهاده وخبرته وإختصاصه وفكره وعلمه ولكن يبقى علمه نسبيّا ضمن إحاطة وجوده وظرفيّة حياته ولكنّ الله عزّ وجلّ خلق فسوّى قدّر فهدى هو الأعلم والأحكم والأدرى بكل ما يقع ويحصل وما سيكون وما كان لأنه المحيط بكلّ شيء جلّ شانه لا يعزب عنه شيئا ,سرّه في الإنسان فهو محرّكه وساكنه فهو العالم والأعلم بسرّه وحركاته وسكناته وتقلّباته وتغيّراته وتحوّلاته كيفما تكون وأينما تكون ومتى تكون.
أليس هو خالقه ورازقه ؟ (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير) سورة لقمان آية 34 كيف لمخلوق عاجز ضعيف محاط يعاند خالقه في قضائه وقدره أو يلحد في اسمائه وينكر الغيب او يكفر بنعمه أو يصيغ افكارا وفلسفة بهواه تراعي الجانب المادّي في الحياة لاغية ما سوى ذلك أو تراعي الجانب الذّاتي للوجود الإنساني وحريّته بدون إعتبار لأي بعد آخر ؟
لو كان هذا الإنسان محقّا لتواضع لعظمة مولاه لعلمه بحقيقة ذاته وحدود نفسه . قد تغشى النّفس الظلمات والحجب فيصدر الإنسان أفكارا وأراء مناقضة لفطرته وجوهر كيانه وحقيقة الكون ويعاند ويكابر ويكفر بمولاه ناسيّا نعمه الذّي غمرته منذ كان جنينا في بطن أمّه ويوم كان في المهد صبيّا ولكن عندما إشتدّ عوده ونمت بذرته حاد بفكره وهواه عن اصل وجوده وعن مولاه . قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (سورة عبّس آية 17) الدّنيا فرصة حياة الإنسان ومدرسة مفتوحة ليعلم ويتعلّم ويعي حقيقة ذاته ويعمل ساعيّا كادحا متواضعا عالما بحدوده ونسبيته وضعفه وعجزه ومآله فآخره جثّة هامدة بلا حراك وإلى ربّها يؤمئذ المساق .( هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) سورة الإنسان آية1 قد أنعم الله عزّ وجلّ على المخلوق بنعمة الإيجاد وجعله سميعا بصيرا مدركا ولكن بأيّ وعيّ وفكر وسلوك ردّ الإنسان الجميل ؟لقد جحد النّعم وما شكر ,فياله من جحود ما بعده جحود ونكران جميل.
لقد كرمّ الله عزّ وجلّ الإنسان وخلقه في احسن تقويم ولكن هذا الأخير ابى أن ينحدر إلى أسفل السّافلين بإختياره وإرادته وتحكّم هواه وغلبة نفسه وشيطانه إلاّ ما رحم من عباده الذّين آمنوا وصدّقوا وصدقوا وعملوا الصالحات فاولئك مبرؤون من هوى نفوسهم ومن نكران جميل بارئهم .( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ۗ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون)َ سورة الشّعراء آية 227 الذّين ظلموا وتعدّوا على حقوق غيرهم بأنانيتهم ونرجسيتهم وتكبّرهم وعجبهم وريائهم ولؤمهم وفسادهم سوف يكشف عن الغطاء والحجب وتظهر الحقيقة النّاصعة ويندمون يوم لا ينفع النّدم لأنهم خسروا أنفسهم واتبعوا أهوائهم وشهواتهم وما تملي عليهم شياطينهم وأخطئوا التّقدير وضلّوا الطريق . "
نسوا اهاط فأنساهم انفسهم "بخواطرهم وافكارهم وأوهامهم سبحوا في لجّة الدّنيا فغرقوا في بحرها برعونتهم وطيشهم وعنادهم وإصرارهم وظنوا أنهم قد أحاطوا بكل شيء علما هكذا توهّموا. هم الفاشلون قد قتلوا طفل المعنى في ذواتهم وداسوا على ارواحهم بماديتهم فخابوا ,أصلهم من تراب وإلى التّراب سائرون وفيه يقبرون ويوم الحساب يقولون "يا ليتنا كنّا ترابا".