الإنسان حامل والبشريّة تستمرّ

Photo

تتواصل الحياة وتستمرّ بالأحياء المسافرين في رحلة الحياة الدّنيا ويبقى أثر الأموات الذين غادروا غير خافيا بموّرثاتهم الجينيّة الباقية المستمرٌة المتواصلة من الأجداد إلى الآباء والأبناء وإلى الأحفاد فهم معنى من معاني الحياة تتوارثها الأجيال جيل بعد جيل ,

فالإنسان الحيّ لاحق لسابق وحامل لتالي إن سنحت له الظروف وحالفه الحظ والأقدار لتمرير مورّثاته ورسالته الوراثيّة لنسله فهو من الأجداد آتي وإلى الأحفاد سائر وقد تختلف الظروف والحظوظ بإختلاف الأقدار والآجال ولكن يستمرّ النّوع البشري بإستمرار الموّرثات الحاملة للصفات النوعيّة والفرديّة.

الأموات الذّين فارقونا لم يغيبوا غيابا تامّا وما تركوه من وراثة وأفكار وقيّم ووصايا وأخلاق وعادات ومألوفات ورّثوها لمنحدريهم ولاحقيهم تخلّد ذكراهم ولا تمحي آثارهم بتاتا وقد يتواصل عملهم رغم تغييب الموت لهم كما قال سيد المرسلين صل اللهم عليه وآله" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث : صدقة جاريّة أوعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " . تتعاقب وتتالى الأجيال بعضها من بعض سلف يليه خلف وذلك سنّة الحياة وقانون إستمراريتها .

لم يسأل الإنسان عن سرّ وجوده وحقيقته ولم يسعى جاهدا للبحث عن كل ذلك كأنّ الأمر هيّن فلا يبالي بذلك . فهو لا يدرك ويفقه حقيقةَ وجوده ؛ فالأيام والسنين والزمن يدخله ويدمجه لينخرط لاواعيا في معمعة الحياة وتنسيه سير من سبقوه ومصيره ومآله مع أنّه ينتهي حتما وقضاء وقدرا إلى مآلهم ويسير سيرهم ,قد تختلف الدّرجات والتوجّهات والاختيارات والإنجازات بحكم تغيّر البيئة والزّمان والتحدّيات مع ثبات النّوع والصبغة البشريّة لمختلف السلوكيات .

إنّ السعي والسّير والمآل في قالب الوجود ومنطق الإنسانيّة واحد في جوهره قد يختلف في درجته بتعدّد أشكاله. فهل غاية الإنسان في الحياة الدّنيا السّعادة والنّعيم والرّاحة والرفاهيّة والبحث عن أسبابها دون سواها؟ أو هو يسير بلا هدى ويقين دون غاية وحسن تفكير وتدبير. وهل بتحقيق سعادته الآنيّة الدنيويّة الماديّة يسعد ويطمئن ويهنا ويرتاح ؟

إنّ سعادته وراحته في الدّنيا نسبيّة ظرفيّة لا تدوم فهو في سباق مرير وسير مستمر لا ينتهي مع الأحداث وشتّى التحدّيات والأزمات ومختلف التغيّرات عقله الظاهر موهوم ممحون وعقله الباطن مشغول بما يوحي به العرف الاجتماعي إليه من إطار تفسيري ومألوفات فكرّية وعادات وقيّم . يتعاقب المولود مع المفقود والفرح مع الأسى والبلاء مع الرّخاء والمحنة مع المنحة والصحّة مع المرض والوجود مع العدم ........... فحياة الإنسان معجونة بالابتلاء ولا راحة في دنيا البلاء.

فكيف يهنأ إذن ويسعد ويرتاح ويطمئن ؟ إن توهّم سعادته وراحته بتحقيق مادياته ورفاهيته فهو واهم حقا لعدم التحقّق من معناه وتحقيق معناه وكنه سرّ حقيقة وجوده كذات وفردّ مستقلّ بمعناه . فالكلّ الذي يحيط به ويحتويه زائل لتبقى حقيقة معناه دون زيف متجذّرة في قالب معناه الذّاتي النّفسي الفردي راسخة لا تنمحي ترافقه بعد الإفناء في البرزخ وتلازمه عند البعث. فهو حامل لمعنى وراحل بإذن ربّه ولو بعد حين فليس لبقائه دوام , فهو كائن قادم للحياة وراحل عنها وتلك بديهيّة معلومة من الجميع ولكن تنسى في خضمّ الحياة وقالب الوجود ورحى المجتمع.

إنّ المعادلة الحقيقيّة لوجود الإنسان ترتبط ببنيته كعبد وبوظيفة العبوديّة فهو عبد فرد واحد عند الولادة والممات وعبوديّة وظائف وتعلّقات إذ هو ذات في دائرة الأسباب والارتباطات تختطفه المرئيات . الشخص وحدة وجود "إنطوى فيه العالم الأكبر وليس بجرم صغير في الحياة " ,

فإذا سعى لتحقيق ذاته كعبد لله وحقّق عبوديته لله وحده بأداء فروض الطاعة والإستقامة أمكن له ان يتحقّق ذاتا وصفاتا وجودا وحقيقة حضورا معنويّا بالفطرة وبالبصيرة والرّوح إعتبارا وتدبّرا وتفكّرا في الحياة وإن زاغ وتاه عن تحقيق مقصده والغاية من وجوده فما حقّق سعادته وراحة باله وإن خادع نفسه وجمّل معناه وأضحك نفسه وانشرح لذلك صدره فهو غائب بالحضور فعدمه وجوده النّفسيّ البصري الحسيّ الدنيويّ مغترب عن معناه راغب في مجال التعلّقات والوسائط متعلّقا بالأسباب متوكّلا على حوله وقوته فهو كثرة في وحدة شغب وجود لتعدّد الأسباب والشّواغل والدّواخل والشّواغب وإختلاف المسارات والسّبل تحت ضغط المؤثرات والدوافع والحوافز والحاجيات التّي تعمّق غرائزه اللاشعوريّة ورغباته الذاتيّة الفرديّة الأنانيّة.

فهو عن قريب سيبكي ويتألّم عند إكتشافه المعنى الحقيقي للحياة وإنكشاف حقيقة معناه فليس إلاّ كائن حامل وضيف زائر ثمّ من بعد راحل غائب وإن أسعدته الأقدار بترك مورّثاته لنسله فهو متواصل سائر في سبيل الحياة بسير الأحياء. أليس في معناه سرّ الغربة والإغتراب معنى الحضور والغياب معنى الوجود والعدم معنى الحياة والموت ؟ فهلا سعى جاهدا كادحا عازما للبحث عن معناه وحقيقة وجوده كذات وغاص في اعماق كينوننته للبحث عن كنزه الأبدي ,أو سيسعد بغياب معناه وبسعيه لتحقيق ضرورياته وحاجياته الماديّة وتوفير ما يراه واتّفق المجتمع على أنّه صالحا ونافعا ومهمّا وجريه وراء اهداف الحياة طلبا للأحوال والمقامات وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى وأنّ سعيه سوف يرى سورة النجم .

إذن سوف يقيّم محصوله عندما يكشف عن حاله عند نزع لباسه الدنيوي وسلب روحه ويسأل عندئذ عن كل معاني وجوده التّي رافقته واستهلكها واعيا او غير واعيا مدركا او غير مدركا فكلاهما سواء مادامت النتيجة واحدة فسوف يسال عن اربع " عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن علمه ماذا عمل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه "حديث شريف فجدير به وهو يصارع امواج الحياة العاتيّة في بحر الدّنيا أن يتأمّل صامتا قبل أن يتألّم واجما جاثما متحسّرا على كلّ ما مضى من حقيقته ومعناه فما خُلق للعبث واللهو ولا للتفاخر والإنسياق وراء العادات الباليّة والأفكار الزائفة والمعتقدات السّخيفة فالدّنيا تغري بزخارفها جاذبة للنّفس وهواها ورغائبها.

الإنسان كينونة وصيرورة عبد وعبوديّة أصلا واصالة معنى لمعناه فالأولى أن يتنزّه كعبدا لله وحده ويتجرّد لعبوديّة مولاه ويحقّق أفعاله في مجالاته الحقيقية ومداره الفعلي متوكّلا مستعينا بحول وقوٌة الله العزيز الحميد . إذا صمت عن الكلام ربّما فهم معنى الكلام عباراته إشاراته ودلالاته وإن تنزّه عن مخالطة السوى فقد يأمن أذى الغير وإن عالج النّفس بمداواة عللها ورعونتها وعاداها آمن شرّها وإن تخلّص من وهمه وغروره أمكن له أن يفهم غيره ويعذر الطبيعة البشريّة وإن تمسّك بالقبس الإلهي والنّور المبين وقى نفسه السّقوط في مستنقع الزّلل والزّيغ.

1-مدار التعلّقات:

ما الذّي يجعل الإنسان يتشبّث بدنياه ويحقّق وجوده الحسيّ الدنيوي ويكبت حقيقة معناه في نظام حياته ؟ إنّ نقص الضروريات والموارد والحاجيات الماديّة والحرمان النّفسي تجعل الإنسان المحروم يسعى لاهثا لنيل ما لم يحصل عليه ولم يدركه ممنيّا النفس للحصول على المفقود فيتمسّك بتلابيب الدّنيا وأسبابها.

ونقيضه الحصول والتمتّع بجميع الضروريات الماديّة والإشباع المادّي والنفسيّ يجعل الإنسان منبسطا مسترخيّا راضيا عن نفسه مزهوّ بحاله فيسعد وتحلو له دنياه بمحاسنها فيلتصق بها ويتقيّد بقوّة فلا تهمّه عندئذ أسرار الوجود ومعانيها الباطنيّة ولا البحث عن معناه وحقيقته.

تلك القاعدة العامّة للتشبّث بالدّنيا والتعلّق بأسبابها فبين نقص حاجيات الإنسان وتوفّرها يسعى جاهدا من لديه عوز أو إشباع متمسّكا كل منهما بوجوده الدّنيوي ,ويبقى الإنسان الوسطي كفضيلة بين رذيلتين له إمكانيّة التأمّل والتدبّر والإنكفاء والتّراجع للتدبّر والتفكّر وفلسفة الحياة والتمعّن في مجريات الأحداث والمآل والمصير والأقدار ونقد الكينونة والصيرورة في قالبها الإجتماعي وفي قيدها الدّنيوي.

فعلى عاتق هؤلاء مسؤولية وأمانة تغيير ما يجب تغييره وإعلاء المعاني الراقيّة والمبادئ المثلى وترشيد إستهلاك الغافلين لوجودهم المعنوي. "فإذا إمتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة "وكذلك "كاد ان يكون الفقر كفرا ". إنّ العوز والنقص والوفرة والإشباع من أسباب البلاء والتمسّك بالمعنى الحسيّ للدنيا .

يغيب الفرد في الكثرة وتغلب الكثرة الواحد بالجلبة والضوضاء وقوة الإجتماع والجمع,يسلب الفرد أحديّته ويفقد فردانيته ويشارك جمعا ويطرح جمعه . فكيف يشع ّالفرد في الكثرة ويسلم من أذى الطرح من المعنى مع أنّه انانيّ بطبعه مدنيّ بالإجتماع ؟ يصبغ الجمع الكثير الواحد الصّغير منذ صباه حتّى سنّ الرّشد بكل مدلولات وأفكار ومألوفات وعادات وقيّم مجتمعه فيسلك سلوكه الشرطيّ المكتسب من بيئته لاأدريّا ولا إراديّا مستجيبا لقواعد وضرورات مجتمعه حتّى ينضج وتلقّحه التّجارب ويستقر بعد عناء واعيا بظروفه وزمانه وبيئته ومجتمعه وليته يتسلّح بالوعيّ الذّاتي والوعي المطابق.

فكيف له أن يفلت من هذا الكمّ الهائل من شروط وعوامل الإنتماء والإنتساب والإعتقاد والإنفعال والتّفاعل ؟ فلقد تشكّلت تلافيفه المخيّة مع تضاريس واقعه الإجتماعي فترجمت سلوكيات متعدّدة نتاج أحاسيسه الشعوريّة فهو بالناصيّة فكرا وإرادة وبالأقدام سيرا وسلوكا إراديّا بموقف وتقدير.

2-هدى المصلحين المهديين:

إنّ ما نادى به ودعى إليه الرّسل والأنبياء المبشّرين والمنذرين عبر حقبات التاريخ والزمن ومن بعد الصالحين والمصلحين المخلصين الصادقين هي حقائق وقيّم خالدة وجذب حقيقي للسعادة الأبديّة ونزع غربة الإنسان وكشف معناه وتحقيق عبوديته وتصالحه مع نفسه والوجود . إنها دواعي الحقّ والحقيقة لحقيقة العبودية وتثبيت العبد الربّانيّ لا المتشيء الجسماني الملبّي لحاجيات جسمه التابع لهوى نفسه.

فجانبه الماديّ يفنى ويضمحل والجسم مثواه القبر وماله قوام اعماله وسيلة لقضاء حوائجه وتيسير أمره وليس غاية لوجود الإنسان ليطمع ويرغب في تكديسه والإستزادة منه حلالا او حراما كسبا أو إختلاسا حيلة ودهاء. وجانبه المعنوي الرّوحي يبقى ويتواصل مع القالب المعنوي للإنسان يرافقه بعد الإفناء فكل أعماله راسخة مطبوعة في القالب المعنوي لا يفارقه ما جناه وما فعله من خير وشرّ فهو مسجّل في كتابه ولا شيء يضيع وكلّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا سورة الإسراء.

على الإنسان أن لا يغترّ ويرضى عن نفسه ويعجب بحاله فعليه ان يمسك لسانه وليبكي على خطيئته وأن يفكّر صامتا ويتامّل عاقلا ويلاحظ ويرمق آيات الله في الآفاق وفي نفسه بتدبّر ويعتبر فليس المتاح والمستهلك ماديّا ومعنويّا مجانيّا لا يسأل عنه حتّى يعلم ويدرك واعيا لكي لا يسأل بعد ذلك عن ّ النعيم متحسّرا نادما بعد الموت والفناء ثمّ لتسألُنَّ يومئذٍ عنِ النّعيم سورة التّكاثر.

إنّ الطريقة المُثلى لسيرة الأنبياء والمرسلين والصالحين نموذج يحتذى لسلوك قويم للبشريّة التائهة عن معناها العالقة في شرنقتها القابعة في قوقعتها قيد في قيد يغتال المعاني ويغيّب جواهر الذوات. من لا يتّبع مصلح لا يصلح كما من لم يرى مفلح لا يفلح فغياب القدوة والأُسوة الحسنة والقِيّم السّليمة من نكبة البشريّة التّي سقطت في مستنقع آسن بمرجعيات وخلفيات فكريّة وثقافيّة سخيفة رديئة لا تطاول ولا ترتقي إلى معنى الإنسان وحقيقته بل تتضاءل وتتصاغر إلى ماديته وضروراته الماديّة الشهوانيّة الغريزيّة حيث تعمّق الفاني البالي وتتلف الباقي الخالد تجمّل ظاهر الوجود وتغيّب وتمحي باطنه وسرّه وحقيقته. فمن يقرأ شفرة الوجود متانيّا ويستبصر خفايا الأقدار ويتّبع أثر أهل النّظر والفطنة والتّحقيق ويفارق أهل البلادة والتّقليد ؟

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات