الوعي الظاهراتي وأولانيّة المعنى

Photo

يجهل الإنسان أجله ومصيره ويعجز عن التنبؤ بأقداره فهو العاجز عن التحكّم في أعضائه وأجهزته التّي تسيّر بدنه , فهل أنّ القلب يشتغل تحت سيطرته حتى يضمن عدم توقّفه ؟ هل تحافظ كليته على الخصائص الفيزيائيّة والكيميائيّة للدّم بتنقيته وهو يراقبها ويأمرها بأداء وظيفتها ؟ وهل تأتمر رئتيه بأوامره لتجديد الهواء لإنتاج الطاقة الضروريّة لنشاطه وحياته ؟ هل يتمّ الإنقسام الخلوي وهو الرّقيب يحدّد بإنتباه تجدّد خلاياه دون فوضى الإنقسام ؟هل يتحكّم في مراكزه العصبيّة لتيسّر تواصله مع محيطه وبيئته بأحاسيسه الشعوريّة وسلوكياته المتنوّعة ؟ هل يدبّر أمر إنتاج خلاياه التناسليّة وهرموناته الجنسيّة ويتصرّف في غدده التكاثريّة ؟

أجهزة وأعضاء تشتغل مستقّلة تماما عن كينونته وحضوره الذّهني والوجداني والسّلوكي تحقّق وظائفه الأساسيّة من تغذيّة وتواصل وتكاثر ليضمن عيشه وإستمراره في الحياة . فليس بسيّد ومتحكّم في بيولوجية وفيزيولوجيّة بدنه كما يظهر كسيّد على أفكاره ومواقفه وتوجّهاته وقراراته . أليس في وجود الإنسان وحياته سرّ ومعنى خارج عن إرادته ووعيه وإدراكه ؟؟

قد يصاب في حياته بمرض عضال يستهدف احد اعضائه الحياتيّة فيقعده وينهكه ويقرّب اجله وقد يراقب صحّته من خلال بيئة صحيّة متوازنة متّزنة رعاية وعناية ومراقبة صحيّة ولكن قد لا يتحكّم حقيقة في باطن حاله واشتغال اجهزته وفعلها الإنعكاسي الفطري , فهو مالك ومتصرّف في احاسيسه ومشاعره وقراراته وافعاله وعيّا وادراكا ولكن ليس المدير لذاته بذاته المدبّر لها إذ لا حول ولا قوة له بذاته .فليس للإنسان وجود مستقلّ بينما في الحقيقة لا قوام له بذاته .

هو السّاكن لجسده بنفسه وهوّيته الذّاتيّة المستهلكة لشحنة وبطارية وجوده وتلك حكمة الأقدار , أمر القضاء وليس عملا بالمقتضى الذّاتي النّفسي الفردي . ولا يمكن أن يكون مدفوعا للوجود لاأدريّا ولامباليّا ولكنه يستمتع بالوجود مستهلكا للنّعم والخيرات فليس بخاملا ولا سلبيّا بما يتمتّع به من ذكاء وإرادة وأهليّة وقابليّة للإختيار والفعل والسّبق والسّباق.

افليس السرّ في حياة الإنسان غيب مغيّب في باطن ذاته رغم الظاهر الجليّ في سلوكياته وافكاره وادراكه وسيره وكسبه وتماهيه وإنصهاره وإندماجه مع عالمه الحسيّ ؟ فوجود الإنسان معنى من خارج معناه مستقلّ عن حضوره ووعيه وهويّته الذاتيّة وأنيّته .فالإنسان معلول وعلّته إنيته من حيث هي كينونة فلا وجود للصفة البشريّة بالأصالة وإنما وجوده مستعار والروح فيه وديعة وسوف تسلب .

إنّ في اعتقاد الإنسان او استبطانه او تمثّله أنّه سيّد نفسه متحكّم في مصيره واقداره وهم وقصور فهم لكينونته وصيرورته , فعامّة النّاس مجبولين على تقدير الأمور بمظاهرها وماديّتها وقليل من يوازن ويوائم ويتمثّل بواطن ما خفي عنه من ظواهر ما كشف له ويقيس ما غاب عنه على ما حضر لديه وما جهل على ما علم وما تيقّن على ما تحقّق .

إنّ التأويل الذّهني للوجود ليس العالم الحقيقي بمعانيه الشّاملة , فالعقل المتصوّر للوجود الحسّ الظاهراتي ينتج عبر تمثّلاته وتصوّراته آرائه وافكاره وسيره بنواصيه واقدامه . الإنسان بين المعطى الخارجي الموضوعي والمعطى الذّاتي الدّاخلي لتنعكس وتتسرّب وتنفذ خيال الأجسام والصور والظواهر والأحداث فترتسم برسائلها ومضامينها واشاراتها مكتسحة محتلة حيز ومجال هوّيته الذاتيّة معمّقة مجذّرة حضوره الأني الآني متجليّة في ادنى تاثيراتها بتشكّل صورته الجسديّة بمحيطاته الحسيّة الحركيّة وفي اقصاها برمجة لعقله الباطن والحضور غير الواعي للأنا المفكّرة .

فكيف له ان يغيّر بسهولة قناعاته وما جبل عليه وما اعتاده وارتاده تكرارا ومرارا وأن يزيح بكل يسر انطباعاته واحكامه القيميّة؟ كيف له ان يسمح لنفسه ان يغوص في باطن ذاته باحثا مستكشفا لإحداث الوعي الحاضر بالفعل في افقه اللامتناهي اللامحدود الماورائي ؟

إنّ وجوده حضرة سالبة ولباسه الحسيّ ستر وحجاب لذاته البشريّة وهوّيته المعنويّة ولا احد يتوقّف ليفكّر ويتمهّل ويتريّث ليتأمّل ويتدبّر وليحدّق ببصر البصيرة . إذا امكن للإنسان أن يحلّ إشكالية ومعادلة وجوده الوجداني و المعرفيّ والسلوكيّ وينتبه متيقّظا من معطى وجوده ووديعة روحه وقالبه المعنوي وهوّيته الذاتيّة المستودعة في قالبه الحسيّ الجسمي تيسّر سيره في حياته بحقيقة ذاته ككينونة غير منفصلة عن حقيقة وعلّة وغاية وجوده وان سلبت الروح فلا يذهل وينكسر ويذلّ عند الكشف عن حقيقة ذاته ومعنى وجوده .

إنّ الوجود الدنيوي للإنسان يقتضي وجوبا حضورا حسيّا مرافقا تابعا ووجودا معنويا لصيقا راسخا لا ينفك عنه ولا ينفصل بفناء ماديته وحسّه وحركته , فحسّ وجوده وتواصله وصيرورته يتمّ بقالبه الحسيّ الظاهر البارز في انفعالاته وتفاعلاته ولغة ورسائل جسده المنبثقة المنعكسة من بيولوجيته وفيزيولوجيته التّي تتّصل ببيئته وعالمه الحسيّ المجانب والمحايث لوجوده المادّي وأمّا قالبه المعنوي المتجاوز لجسده المغيّب في صميم ذاته وهوّيته يمكّنه من الإستقلال والإنفصال عن الواقع الحسيّ الماديّ الظاهراتي ليحيله إلى عالم الفكر والوعي والإدراك والتأمّل والمعنى.

والحصيلة إمّا إنغماس وإندماج وتماهي مع ضروريات الجسد وسجن الذّات والموضوع حيث حجاب الظلمة منبع الظلمات ,وإمّا تجاوز وتعالي وإرتقاء الى حياة المعنى بأسرار الباطن والغيب وجوهر الذّات المتعاليّة عن الإمتداد الحسيّ للظاهرات .فسطحيّة الذّات ومركزها المتدنّي ماديتها وقالبها الحسيّ وكثافة الحسّ غشاوتها وإنطماس بصيرتها .

إنّ القالب الحسيّ دعامة للوجود الحسيّ وليس جوهر لذاته والقالب المعنوي دعامة للوجود الماورائي الأخروي الغيبي وهو ركيزة وأساس لكينونة الّذات من ولادتها وحياتها إلى فنائها وبعثها و لذلك فحياة البرزخ ما بعد الموت والآخرة حياة مختلفة ومغايرة تماما عن الحياة الدنيا ولا يمكن ان تقاس كيفيّا ونوعيّا بقياسها ومعاييرها ومؤشراتها وذلك لتفاوت وتباين الدرجات وتباعد الحضرات الروحيّة والنفسيّة .

ولمن اراد الصفاء والبهاء والسعادة الحقيقيّة فلينقّي ويصفّي ذاته من أدرانها ولوثاتها وشوائبها الحسيّة المنغرزة بذاته ولا يغترّ بالظواهر والمظاهر وخداع الصّور ولا يغيّب ذاته المعنويّة وهويته الذاتيّة وحقيقته بحضور ووجود قالبه الحسيّ الطيني فينسى نفسه ويجهل السبب والغاية من وجوده فقد ينكر عندئذ خالقه ورازقه وموجده من عدم جحودا أو غرورا أو تكبّرا أو إنصرافا لقضاء شؤونه ومصالحه وضرورياته وكمالياته الماديّة ليستقلّ بذاته عن الوجود الأعلى والأبقى ويتشبّث بالوجود الأدنى الزائل الفاني.

أليس الوجود العياني إمتداد مغفّل ؟ أليس العدم حضرة موجبة مثبتة لحقيقة الذّات والوجود حضرة سالبة كاشفة لسوءته نازعة لحقيقته؟ وما الشّجرة المحرّمة في قصة آدم وإبتلائه إلاّ رمز حسيّ ظاهراتي سالب لمعنى وحقيقة ذاته . إنّ وجودنا وحضورنا الدنيوي معنى بالأساس حسيّ بالحياة كشفا بالممات وذلك عند نزع لباس الحسّ دثار الحياة وتلك مأساة الوجود البشري أساسا ومعضلة فهمنا ووعينا بعدم إدراكنا المعنى والسرّ من وجودنا لننكسر في لوثة الحسّ وغشاوته وغرور الذّات بالزخارف والشهوات لتصرف الحياة في الملذّات والسعي الدؤوب وراء تحصيل الماديّات وإقامة المباني (عكس المعاني ) لتستهلك بطارية وشحنة الوجود البشري في الدروب والمتاهات وشتّى الضلالات والشبهات حتى يباغتنا الموت ويغيّب الذوات . فالموت عدم الوجود وفناء الحسّ شاخص امام الحواس لتنكشف زيف الخطرات ووهم اللحظات في عالم المعنى الصرف المنزّه عن زخارف وبهرجة الدنيا وكثائفها وبهجتها وغرورها .

إن اللإنتقال من الوعي السلبي التماثلي المتماهي الملتصق بالوجود الحسّ الظاهراتي لا يتمّ إلاّ بجدليّة نقضيّة جدليّة العدم الظاهراتي بفضّ مغلقات الكون وكوامنه رسائله إشاراته بالوعي العدمي اللماذائي ( لماذا ) ببحث قصدي عن المعنى برؤية عدميّة للحضور الأني وتجلّيه الظاهراتي . فالواقع المشهود ظاهر والأمر الإلهي باطن فكيف للمحاط أن يحيط بالمحيط الخبير المتعالي وهو المحاط بمحيطاته وسواكنه الحسيّة الماديّة ؟ وكيف له أن يفضي الشفرة السريّة التي كتب بها الأقدار وهو ما زال يتخبّط في عالمه الحسيّ الحركي خائرة قواه الباطنيّة منفلتة قواه الظاهريّة تخبط خبط عشواء في جميع الإتجاهات الحسيّة الماديّة سالكة طريق الحسّ بحر السراب والأوهام دون تمهّل وتريّث وتوقّف ؟

فالإنفعال والتعلّقات بالأسباب والتفاعلات والفعل والسعي سياقا حضوريّا وجوديّا والعزلة والتأمّل والتدبّر والتفكّر نسقا عدميّا . أليس الوجود ضلّ للعدم والعدم محورا أولانيّا حامل مطلق للمعنى ؟ فالعدم حامل للوجود والموت كاشفه . الوجود سلب الذات ورسوخ أنيّة الأنا والعدم موجب كينونة وحقيقة الذّات وعين وجودها بسلب أنيّة الأنا وأنانيتها. فالوجود عدم ذاتيّة الأنا الواعيّة بالحضور والعدم إكتشاف الأنا الواعيّة ذاتيتها بالغياب.

فهل عند خوض معاناة تجربة صمت الأشياء وإتّخاذ مسافة الآمان من كل ما يحيط بنا من محيطات حسيّة حركيّة وجدانية معرفية مهارية وسلوكية تفاعلية إنفعاليّة ينبثق الشّعور العدمي ويتجلّى العدم بوصفه شعورا للإنتقال من الحالة إلى الوعي ومن الشخصانيّة إلى اللاشخصانيّة ومن المتعيّن إلى اللامتعيّن ومن الأشباح إلى الأرواح ومن الكثائف إلى اللطائف.

"فكلّما شفّت نورانيّة النور كلّما شفّت كثائف الموضوع " إذا تمّ العلم بالحال وإنتهى الجدال والنزاع وتيسّر تبعا لذلك خوض معركة وصراع المعاني والحقائق فقها لأحوال المنازلات فلا بدّ إذا ولا مناص من إزاحة أنيّة الأنا الأنا الوهميّة فهي دار الضرب والمحكّ وحلبة الصراع والمنازلة الحقيقية من أجل الأنا الحقيقيّة أنا الرّوح , فالأنا ليست سوى وهم والهويّة الذاتيّة البشريّة تواصليّة إتصاليّة بالوجود الحسيّ والمعنوي لإدراك معنى وجودها ووجود معناها من سرّ عدمها وإكتناه معنى الوجود.

فما وجد الإنسان بذاته إذ حضر ولكن الله أوجده من عدم فهو ساكنه ومحرّكه وما وعى الإنسان إذ أدرك وأبصر ولكنّ الله جعله سميعا بصيرا , فمن القبس الإلهي كان الضياء ومن الغبش البشري كان العماء. أليس الله عزّ وجلّ القائل " وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى " ولكن الإنسان ما وعى.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات