متّى تنضج التّجربة الإنسانيّة ؟

Photo

إنّ حدث خلق آدم وتتبّع مجرياته وتبعاته يحيل الباحث عن الحقيقة والنّاقد البصير إلى كنه معرفة جذر معنى المعاني وأرواح الأواني ليتبيّن صميم التّجربة الإنسانيّة من نشأتها إلى نهايتها عبر أطوارها العديدة الممتدّة في الزّمان المتّسعة في المكان.

فالوجود الإنساني مرتبط متعلّق ومتّصل بذلك الحدث , أليس آدم أبو البشر وميراثه وتراثه ثقل معنوي لكلّ البشر ؟ فهل وفّقت البشريّة في تعديل سلوكها والإنتقال من الخطأ إلى بيداغوجيا الخطأ؟ وهل إنتقلت من سذاجة وسطحيّة التّفكير إلى عمق ونضج وحكمة التّدبير ؟

1-حدث خلق آدم:

إنّ مشيئة وإرادة وعلم الله عزّ وجلّ اقتضى خلق آدم كوافد جديد في مسرح الوجود مضافا إلى الكائنات العاقلة الملائكة والجنّ إبليس. لقد أعلن الله العزيز الجبّار عن خلقه وبيّن تركيبته ووظيفته وأمرهم بالسجود له تشريفا لمقامه. "

وإذ قال ربّك للملائكة إنّي خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون ,فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " سورة الحجر "وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة "سورة البقرة إنّ الأمر الإلهي يستوجب الاستجابة بحصول الطاعة والسّجود ولكن إستجاب الملائكة والجنّ إبليس كلّ حسب علمه (النّشاط الذّهني لإيجابية أو سلبيّة التلقّي حسب تمثّلآت كل واحد منهم ) ومدى تقبّله لحقيقة آدم نفسيّا) البعد النّفسي للقبول والرّفض.

لقد نتج عن ذلك حوارات ومواقف وأحكام وتبعات.

أ_حوار الملائكة مع الله عزّ وجلّ:

بدأ الحوار بالتّشكيك في وظيفة آدم عليه السّلام كخليفة لله سبحانه وتعالى في الأرض ورأى الملائكة أنّهم أهل لذلك فهم المسبّحون والمقدّسون لذات الله عزّ وجلّ دون تقصير أو ملل فكيف تسند الخلافة لغيرهم لمن سيفسد فيها ويسفك الدّماء !!! "قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك "سورة البقرة أجاب العزيز العليم "إنّي أعلم ما لا تعلمون " سورة البقرة ولإفهامهم وتحفيزهم على مسائلة طريقة تفكيرهم إمتحنهم مولاهم عزّ وجلّ بتجربة الكشف عن الأسماء إن كانوا صادقين في زعمهم ليضع تفكيرهم موضع تفكير. "

وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" البقرة إنّها وضعية تعلميّة إرتبطت بنشاطهم الذّهني فجهازهم النّفسي سليم ,إنه خطأ في الأسلوب الذّي إنتهجه الملائكة للتقييم أثناء إبتلائهم بالسّجود لآدم ولا بدّ إذن من بيداغوجيا للتحكّم والتّعديل ,بيداغوجيا ما وراء المعرفة فهي التّربية المعرفيّة . لقد عجز الملائكة عن الإجابة ولكن أجابهم آدم بعد تلقينه الأسماء من لدن العزيز الحميد. "قال يا آدم أنبئهم باسمائهم فلمّا أنبأهم باسمائهم قال ألم اقل لكم إنّي اعلم غيب السّماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون "سورة البقرة لقد حصل علمهم بتعلّمهم من الواحد الديّان منهيّا تشكيكهم وإستنكارهم بان وضّح لهم أنّه عليم بكل شيء فالكل عنده مكشوف ظاهرا وباطنا ولا يخفى عليه شيئا سبحانه وكفى بهاته المعلومة علما وبالتّجربة يقينا .

إنّها عمليّة ترميم ذهني وإستعادة النّشاط الذّهني الصحيح بقول الملائكة "سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم "سورة البقرة لقد سجد الملائكة طائعين وإنتقلوا من الموقف الخاطئ (التمثّلات الخاطئة) إلى الموقف الصائب (التّحقيق والسّجود) بعد تحقّق تعلّمهم في المدرسة الإلهيّة فلقد برز الحوار كأنّه بين معلّم خبير عليم ومتعلّم منتبه بصير حوّل نشاطه الذّهني في الوضعيّة المناسبة من السلبيّة إلى الإيجابيّة ومن التصوّر الخاطئ إلى الفهم الصائب.

ب_حوار إبليس اللّعين مع ربّه عزّ وجلّ :

لم يكن إبليس غائبا عن الحوار الذّي دار بين الله عزّ وجلّ وأقرانه الملائكة ,فلقد كان يتابع مجريات الحوار وتطوّراته ومخرجاته ,ولكنّه لم ينطلق في التعبيرعما يخالج فؤاده ونفسه إلاّ بعد سجود الملائكة وعصيانه للأمر الإلهي ,لقد توّجه إليه العزيز الجبّار وهو العليم بحاله وموقفه ودسيسته النفسيّة قائلا "ما منعك ألاّ تسجد إذ أمرتك "؟سورة الأعراف ,هنالك حلّت عقدة لسانه وأفصح عن دفائن فؤاده ناطقا"أنا خير منه خلقتني من نّار وخلقته من طين "سورة الأعراف لقد بنى حجّة رفضه على بنية وتركيبة آدم الطينيّة فإبليس الجان إستمرّ في الحوار بعد الملائكة ولكّنه إنفرد بموقف شاذّ ولقد اخطأ وحاد وإبتعد عن الصواب.

فهل كان خطأه مجرّد وقفة ظرفيّة آنيّة وتعثّر أو هو موقف ثابت عنيد مبدئي ؟ إن كان خطأه نتيجة معرفة ناقصة أو غير مستوعبة بما فيه الكفاية أو في حاجة إلى دعم إضافي ,فلقد أمهله خالقه لعلّه يصحّح خطأه ويتراجع ووّجه إليه إشارات _"قال يا إبليس ما لك ألاّ تكون مع السّاجدين "؟ سورة الحجر _"قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ "؟ سورة ص _"أستكبرت أم كنت من العالين "؟ سورة ص لم يراجع إبليس نفسه ولم يتراجع ولقد تمادى غير عابئ ومهتمّ بكل الرسائل الإلهيّة المضمّنة في شكل اسئلة موجّهة مباشرة لشخصه فلم يقم بأي تعديل ومراجعة ومعالجة لسلوكه بل إتّهم ربّه بانّه من أغواه ولو أراده ان يسجد لسجد وتعالى الله العزيز الحكيم عن كلّ ذلك , لقد قال "ربّ بما أغويتني لأزينّن لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين "سورة الحجر ولقد قال الجنّ إبليس متشبثا برايه وموقفه "لم اكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون" سورة الحجر عند ذلك لعنه الله وأطرده من رحمته فلقد إستحق مصيره المشؤوم لتكبّره وإحتقاره لآدم وعدم إحترامه للحضرة الربانيّة فلقد حاور ربّه العزيز الجبّار كندّ ,لم يتراجع مواصلا غيّه بعد فسقه وطلب النظرة من ربّه العظيم لغواية بني آدم وأجابه الله العليّ العظيم "فإنّك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم "سورة الحجر لقد خاب إبليس اللّعين أمام أقرانه الملائكة في تلك الحضرة المهيبة وتفرّد اللّعين بالموقف الخطا وثبّت بعده النّفسي في دائرة الرّفض التّام لآدم والأمر الإلهي بالسّجود سقط أبديّا من عيني خالقه ومولاه وكان الخائب الفاشل الوحيد بينهم الذي إرتسمت فيه كل مظاهر العناد والإصرار والرّفض والغباء معاديّا تجليّات ربّه العزيز الجبّار فلقد مات معناه بمحاربة الربوبيّة وتلاشت واضمحلت وانتهت عبوديته لمولاه فهو الكافر عدوّ الله عزّ وجل ّ "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس ابى واستكبر وكان من الكافرين "سورة البقرة إنّ الأسباب الكامنة وراء رفضه السّجود لآدم وطاعة مولاه هي عديدة وتلبّست عليه كلّها فهي اسباب ذاتيّة نفسيّة وتاريخ شخصي لإبليس اللّعين فلقد كان طاووس الملائكة وحسب نفسه انّه من العالين وكذلك بسبب محيطه وزمانه حدث خلق آدم وحوار الملائكة الذّي إستتبعه بموقف شاذّ فلقد أراد التفرّد فأنفرد بالموقف الشاذّ وسقط سقطته الأبديّة. إنّ دسيسته النفسيّة وجهازه النّفسي هو الذّي ألغى إمكانيّة مراجعته ومعالجته لخطأه وحجب عنه إمكانيّة المعرفة والعلم ولقد تهافتت معارفه ولم ينفعه علمه وليس لخطأه بعد تكويني بل مسّ جوهر كينونته وإلتصقت به خطيئته أبديّا ,فهو ذات متكبّرة متعاليّة مغرورة واهمة معجب بنفسه مجدّف ضد تجليّات ربّه العليّ القادر لأنّها لا توافق هواه ,فلقد إستحقّ اللّعنة والطرد لتكبّره وإصراره وعناده وسوء أدبه .

إنّ الحوار الذّي دار بين الله عزّ وجلّ والملائكة ومن بعد إبليس اللّعين وحصول الطاعة والمعصيّة بعد ذلك يظهر طبيعة هذه الكائنات العاقلة بعد الإبتلاء والفرز الربّاني فالملائكة قوى الخير واللّعين إبليس المفتخر بعنصر النّار قوى الشرّ ,فهم أقرانا في البداية أضدادا في نهاية الإبتلاء وهما على طرفي نقيض .

_الملائكة كائنات نورانيّة واصلت مسار الأنوار في حضرة الرحمان ولقد وصفهم مولاهم العزيز الحكيم"لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " التّحريم. " ويسبّح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته "سورة الرّعد.

_ولكن اللّعين إبليس واصل مساره الخاطئ فلقد ثبّت معناه في الموقف الخاطئ ولم ينتقل للموقف الصائب أصابته اللّعنة وآيس من رحمة الله وقنط من عفوه فاصبح راسا للغواية وإماما للأشقياء فهو في حضرة ظلمانيّة رسولا للشرّ.

إذن لا بدّ أن يكون للإنسان مجال ومسار آخر يكتمل به مشهد الوجود بين طرفي النّقيض بين الخير والشرّ بين دواعي الحقّ ودواعي الباطل.

ج-فما شأن آدم بعد كل ذلك ؟

أدم عليه السّلام وافد جديد بدون تاريخ في حضرة الشّهود مقارنة بالملائكة والجنّ اللعين إبليس خلقه الله عزّ وجلّ من مادّة طينيّة في علاقة مع وجوده المادّي ومن جوهر لطيف نفخة من روح الله في علاقة مع وجوده المعنوي ,تركيبة عجيبة فريدة تنبأ وتعلم بمقصد الرّحمان وعن سرّ خلقه ومسار حياته وأقداره.

في البداية عند إبتلاء الملائكة واللّعين إبليس بالسّجود له إستجاب لمولاه بعد أن علّمه الأسماء كلّها
"وعلّم آدم الأسماء كلّها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم "سورة البقرة.

"قال يا آدم أنبئهم باسمائهم فلما أنباهم باسمائهم قال الم اقل لكم أنّي اعلم غيب السّماوات والأرض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون "سورة البقرة. تلك خصلة تحسب لآدم عليه السّلام وهي نافلة من إمداد ربّه العزيز الوهّاب.

بعد إمتحانه ودخوله مختبر الإبتلاء شانه شان الملائكة واللّعين إبليس عصى أمر ربّه بإيعاز من عدوّه الذّي اغواه بكلام ظاهره النّصح وباطنه الغواية والإنحراف والسّقوط فأكل من الشجرة التي حرّمها الله عليه.

أليست الشجرة رمزا للشريعة عنوانا للحقيقة؟فالشّجرة الشّريعة والحقيقة الثّمرة . فلقد اصبحت حقيقة آدم مرّة بعد مرارة خيبته.

في الأوّل علّم الله آدم الأسماء كلّها لينبأ الملائكة بها وهي طريقة تلقينيّة في التعليم ولكي يتمّ نضجه ودرايته بما عليه وما له لا بدّ من الإنتقال إلى التعلّم عن طريق التّطبيق عن طريق النّشاط والتّفاعل مع الموضوعات الخارجيّة (الشّجرة المحرّمة واللّعين إبليس عدوّه).

لقد وجد آدم نفسه في وضعيّة إشكاليّة تصارعه ويصارعها وذلك لكي يصل إلى معرفة لا تكون معطاة جاهزة بل معرفة مبنيّة نتيجة جهد ذاتي قام به عقله وليس عقل غيره ولذلك وضّح الله عزّ وجلّ له الأمر بان ابان له كل اللّبس وعرّفه بحدوده قائلا "يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين"سورة البقرة

ولقد اضاف مفسّرا موضّحا له "إنّ لك ألاّ تجوع فيها ولا تعرى وأنّك لا تظمأ فيها ولا تضحى"سورة طه ولقد كان حذّره من قبل ذلك من عداوة عدوّه إبليس اللّعين قائلا "يا آدم إنّ هذا عدوّ لك ولزوجك فلا يخرجنّكما من الجنّة فتشقى" سورة طه

ولكن آدم إزاء الوضعيّة والإبتلاء خارت عزيمته ونسي إرشاد وتوجيهات ربّه وسيّده لمغالبة صعوباته ويتجاوز إكراهاته.

فلقد إستجاب لعدوّه ولم يكبح جماح شهوته فسقط في إمتحانه بغلبة ناسوتيته على روحانيته ,ولم يحقّق الفعاليّة القصديّة من ذلك الإمتحان فوجّه الله له اللّوم ولزوجه على صنيعهما قائلا "ألم أنهكما عن تلكما الشّجرة وأقل لكما إنّ الشّيطان لكما عدوّ مبين "سورة الأعراف

إنها الخيبة المزدوجة بنفاذ عزم آدم ونسيانه فلقد إستحقّ الهبوط من حضرة الأنوار إلى دنيا الإبتلاءات والشقاء مفارقا الهناء والراحة والطمأنينة ومن الكشف إلى الحجب ولكن لم يفقد صفته كخليفة الله رغم خطأه فلقد تلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه فلقد قالا " ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونّن من الخاسرين "سورة الأعراف

لقد نسبا الخطا إلى أنفسهم ولم يتجرأوا على هيبة وحضرة مولاهم العظيم عكس إبليس اللعين عدوّهم وإنتقلا من الموقف الخاطئ إلى الموقف الصائب بإعترافهم بذنبهم وطلب المغفرة والرّحمة من ارحم الرّاحمين وعالجا الخطأ بالتّوبة والمغفرة.

ولكن لا ترجع الأمور كما كانت عليه فلقد نال منهم عدوّهم حظه ولا بدّ لآدم وأبنائه من تجربة حياتيّة دنيويّة لتعديل السّلوك وإكتساب خبرات ومواقف جديدة وقيم من خلال الجهد الذّاتي والصّراع فلكل فرد قدراته وخصائصه الخلقيّة تنمو وتتكوّن من خلال خبراته التّي تمدّه بها البيئة التّي يعيش فيها (بيداغوجيا المشروع) .

لقد أمرهم الله عزّ وجلّ قائلا "إهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو "سورة طه

إنطلقت مسيرة شقاء الإنسانيّة بعد ذلك في دنيا الإبتلاءات وشتّى الفتن والصراعات مكشوف ظاهرهم مخفيّ باطنهم محجوب الغيب عن عيونهم بصرهم متعلّق بعالم الحسّ والكثائف وبصيرتهم منجذبة لعالم الشّهادة إلاّ ما رحم الله.

ولعلمه بحالهم ومآلهم بيّن لهم العليم الخبير قائلا "فإمّا يأتينّكم منّي هدى فمن إتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى" سورة طه

2-متى تنضج التجربة الإنسانيّة ؟

لقد خلّف آدم عليه السّلام لأبنائه ميراثا وثقلا معنويّا فلقد نال عدوّه منه حظّه فهو يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونه ويواصل الشّيطان الرجيم غوايته والوسوسة لزرع الشرّ والفساد دون هوادة لإخراج من يقدر عليهم من الصراط المستقيم.

فهل إتّسم سلوك الإنسانيّة على مرّ الزّمان بالنّضج واليقظة وحضور العقل لدحض الباطل ونصرة الحقّ والإستناد إلى ميثاق فطرتهم لدرء الأخطار وتجاوز الصعوبات وتفادي الإنحرافات؟؟؟
إنّ الطفوليّة والصبيانيّة التّي ميّزت التّجربة الإنسانيّة المعنويّة في مدرسة الحياة أفقدت الإنسان جوهره ومعناه الرّوحي ولوّثت وجوده بثبات نقائصه وعيوبه وذنوبه فتجبّر وتكبّر وإستعلى إبليس اللّعين وجنوده مستمرّا في غواية البشر كما أغوى ابيهم واخرجه من جنّة الخلد سالبا لراسمالهم المعنوي غير ملتفتا لكسبهم وربحهم المادّي فغايته إفلاسهم المعنوي وتغييب معناهم وفنائهم جوهرا وروحا وكينونة فعلاقته بهم علاقة المفترس بفريسته ومتى سنحت له الفرصة إنقضّ عليهم وألغى وجودهم المعنوي.

متى يستفيق البشر ويحكّموا وجدانهم وضمائرهم وعقولهم وبصيرتهم وفطرتهم ليتّخذوا إبليس اللّعين واعوانه أعداء ويرجعونه إلى حدوده وإلى دائرة لعنته وأبديّة شقاوته ليحصل البعد والفراق بإنتزاع حظه منهم ؟ إنّ الخزي والعار لمن إتخذوا الشّياطين أولياء من دون الله "بئس للظالمين بدلا ", ولكن سلاح حزب الشيطان الرّجيم مكشوف لذوي البصائر والعقول النيّرة والفطور (ج فطرة)السّليمة فشغل شيخهم العاطل إبليس اللعين غواية البشر وإنحرافهم عن الصّراط المستقيم إلى السّبل الشيطانيّة ونقض وإلغاء الحقّ الإلهي بالشّبهة الشّيطانيّة ولعدم تحقيق عبوديتهم والقيام بفروض الطاعة يوجّه إهتمامهم وإراداتهم وعقولهم من آيات ربّهم إلى الكفر بنعمه وعصيانه ينقلهم في غفلة منهم من الحقيقة المحمديّة الخالدة الحاملة لكل المعاني الخيّرة المباركة إلى الحقيقة الماديّة الجوفاء لوجودهم الآني ليرتبطوا ويلتصقوا بكل ما هو مادّي ظرفي ويغيبوا عن جوهرهم الرّوحاني فيرسّخ ويثبّت عندئذ حيوانيتهم وغرائزهم ويلغي إنسانيتهم رغم أنّ كيده ضعيف فلقد أفلح في غواية البشر وحاد بهم عن ميثاق فطرتهم. متى ينتبه بني آدم ويتذكّروا ويشحذوا عزائمهم وهممهم ويحثّوا مطايا العزم للإرتقاء من أسفل السّافلين إلى السلوك القويم ؟

إنّ التكرار في القرآن العظيم لحادثة خلق آدم والإبتلاء ونتيجته هو لتذكير الإنسان وجلب إنتباهه وإهتمامه وإخراجه من أوديّة الغفلة وسجن الظلمات والحجب لكي يعيد صياغة معناه على ضوء القبس الإلهي.

أليس في الإسلام المنطق السويّ النّاضج وفي الإلحاد والإنكار المنطق السّخيف السّاذج الغبيّ؟ أليس الصّيام وجاء ووقاية من الشّهوات لتجنّب السّقوط كما سقط آدم بشهوة بطنه؟ أليس الذّكر وقاية من وساوس الشّيطان الرّجيم وحصنا حصينا منيعا من شرّ وساوسه وإغراءاته وتزييفه وقلبه للحقائق؟ أليست الصّلاة معراجا وأسّ معنى لعبوديّة الإنسان لربّه ففيها كل معاني العبوديّة فهي حركات أرواح وليست حركات أشباح غافلة ؟

ففي القيام حضورا للعقل المنتبه المتيقّظ وفي الرّكوع إنحناءا وإنكسارا للنّفس أمام عظمة الربّ عزّ وجل ّ والسّجود خضوعا وإستسلاما ومحبّة لمن خلق وسوّى وأنعم على الإنسان بنعمة الإيجاد والإمداد. من كرّم الإنسان ومن إحتقره ؟من يريده حرّا كريما سعيدا ؟ومن يريده مقيّدا ذليلا شقيّا؟ "أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها " سورة محمّد إنّ هذا الإنسان المغرور المحجوب بوهمه وسوء فهمه ونفسه أضحى ألعوبة بين أيدي عدوّه اللّعين إبليس يقذفه إلى غياهب الظلمات وأوديّة الغفلة ولقد خاب سعي الكثير من البشر بغواية رسول الشرّ وإن كان لهؤلاء الحمقى دين أو عبادة فهي رياء وشرك خفيّ وعجب واستعلاء يقتفون خطوات الشّيطان إمامهم سرّا وعلانيّة . الأجدى البحث عن نواقض الإيمان عوضا عن الإكتفاء بنواقض الوضوء !

فإذا ثبت وترسّخ الإيمان في القلب إستحال الشّرك والكفر والإنتماء لحزب الشّيطان الخاسر. الأجدى البحث عن الأصول لإقامتها وتثبيتها عوضا عن الضياع والضلال والتمسّك بالفروع !فقصّة آدم اصل وجذر معنى لكلّ معتبر ومتدبّر وباحث عن حقيقة الإنسان. الأجدى للإنسان والأنفع الغوص في بواطن الأشياء والمواضيع وعدم الاستئناس بظاهر الظواهر ! فالعلم في التطرّق للمعاني وليس بحثا عن المباني والتطاول في البنيان ! والتعلّق بما يبقى ويدوم وليس التقيّد بما يفنى ويزول.

على الإنسان الصّاحي الواعي أن يعيد إنتاج معناه في مدرسة الحياة طالما الرّوح مازالت ساكنة في البدن وطالما بقي في العمر بقيّة فمن خبر تاريخه وأصل نشأته وميراثه الآدمي وتفطّن لعدوّه تيّسر سيره على بصيرة وهانت اقداره بحول وقوّة من مولاه.

3-كلّ يعمل على شاكلته:

إنّ إبليس اللّعين إمام الأشقياء وأوّل الجبريين فهو يعتقد أنه مجبور على فعله ولا إختيار له ولا إرادة وأنّ الله هو الفاعل لكل شيء فهو المدفوع للخطأ وقد كتبها الله عليه ولا ذنب له ,هذا اللّعين عدو الله وآدم والبشر هو صفحة من صفحات كتاب الوجود وسوف ينتهي شرّه وأخباره وآثاره يوم الوقت المعلوم حينها يتحقّق من شقاوته وتنتهي غوايته وتغلق صفحته المشؤومة التّي شوّهت مسار التّاريخ البشري فليس له وجود ابدي أزلي بل هو من المنظرين وهو فانّ ميّت لا محالة مهما طال زمانه وعاش مع البشر دهور وسنين فكل آت قريب ولقد مات معنى منذ تاريخ خلق آدم وقرب موته المادّي الجثماني لينتهي إلى الأبد ذكره فلا استعاذة منه ولا هم يحزنون عندئذ يجمع معه حزبه الشّيطاني الخاسر وليهنا بطوق اللّعنة فهي جائزته واستحقاقه وليسكن وحزبه جهنّم خالدين فيها فهم لها حطب وإنّ الأمر غير.

فإن أغرى وأغوى الكثير من البشر فإنّ الحقيقة ناصعة لا تبلى ولا تفنى بتشويهاته وتزييفه بمرور الزّمن فالله هو الحق العدل حاضر ناظر صاحب المعروف ربّ العالمين مالك يوم الدّين. "وعنت الوجوه للحيّ القيّوم وقد خاب من حمل ظلما " سورة طه فسوف يشهد على الظالمين أعداء الله والحياة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم وجلودهم وسمعهم وأبصارهم حين ينكروا ما فعلوا في الدّنيا الغرورة من فحشاء ومنكر ومفاسد لأنّ الله العزيز الجبّار الحقّ العدل سينطق كل شيء في محكمة ابتلاء السّرائر وكشف المعاني الحقيقيّة للذّوات ولعلّ ذلك غائب عن مطموسي البصيرة. "

وذلكم ظنّكم الذّي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين "سورة فصّلت أيتها الحضارة الماديّة الشيئيّة لا تفرحي كثيرا وتغترّي وتعتزّي بإنجازاتك وكشوفاتك الماديّة فليس لها بقاء وتمهّلي قليلا في إسراعك وتهوّرك وسيرك المادّي فالبشريّة في آخر النّص, في الدّرس الأخير في الصفحات الأخيرة لكتاب الوجود البشري الحيني بمتاعه ومستقره المكسوّ بثوب الحسّ المنزوع بالموت المكشوف حقيقته عند البعث ووضع الموازين القسط يوم القيامة.

إنّ هذا الوجود يحتمل مساران سيالة وجودية نابذة مفارقة للحضرة الربانيّة لإبليس اللّعين وسيالة وجوديّة جاذبة متعلّقة بحضرة الرّحمان الرّحيم لكل سالكي طريق الحقّ وهما خطّان متوازيان مختلفين كليّا متناقضين تماما لا يلتقيان أبدا ولا يتقاطعان بتاتا . إنّ اللّعين المنبوذ المطرود المفارق لحضرة مولاه عارفا بالاتّجاه الصحيح فهو يشتغل ويعمل جاهدا لقطع طريق الصلاح والفلاح على سالكي الطريق وما شيطان الرّدهة إلاّ عقبة لسدّ الطريق. إنّ حياة الإنسانيّة هي قصديّة وعلى الإنسان تعديل سلوكه والسير في الصراط المستقيم على هدى ونور من مولاه والتوكّل على حوله وقوّته ففي الدّنيا يولد الإنسان وبها يحيا ويموت ويدفن ويبعث وهي جزء من حقيقة الوجود والغيب معنى لكل الوجود .

هي مهبط آدم ومن بعده أبنائهم فهي دار بلائهم وحياتهم وفنائهم دار ممّر يسجل فيها الإنسان على صفحات كتاب وجوده المعنوي تاريخه وأفعاله. فالكلّ يسعى لمقصد وهدف والحاجة محرّك لنيل الغايات والأمل محفّز واليأس مثبّط والإيجابي سالب للعقبات متجاوز للصعوبات والسّلبي ثابت العثرات جاذب للخيبات. إنّ عجلة الزمان لا تتوقّف وسعي الإنسان مستمر ,الدّنيا ميدان السباق والبلاء وتمحيصا للنفوس, والجسم للاستعمال الدنيوي الحسيّ الماديّ يفنى ويتحلّل بعد الموت في التّراب ,البشر يسيرون ولا يعلمون ولا يدركون معنى لوجودهم إلاّ قلّة مبصرة بنور مولاها.

لا يتوقّف الزّمان الإنسانيّ عن الحركة فيستجيب كل البشر بتغيّرات جسديّة ونفسيّة وقلبيّة وعقليّة وما مضى لا يعود أبدا ,الموت نهايتهم وغياب حضورهم إلى الأبد . لعلّ نضج وخبرة الإنسان تنقله وجوبا من العاطفة والانفعال إلى الفعل والتعقّل ومن الوجدان إلى العرفان ومن الوهم إلى الفهم ومن التمثّل والموائمة إلى التكيّف والتّوازن وحكمة التعامل ومن التسرّع إلى التريّث ومن حسّ الكثائف إلى روح اللطائف.

إنّها لمقاربة شاملة للوجود البشري من شبكة علاقات وتفاعلات وردود أفعال ومسارات قد تسمح بتعلّم الإنسان وحصول خبرته واستيعابه لحاله وإنجازه للأفعاله وثبات ونضج فعله بتراكم عوامله المعرفيّة وعوامله المعرفيّة الإضافيّة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات