في البحث عن قطبي الوجود الربّ الواجد والعبد الموجود يمكن أن نتبيّن طبيعة العلاقة بين العبد العابد والربّ المعبود. نرى العابدون يقومون بفروض الطاعة ويؤدون مناسكهم وشعائرهم الدينيّة فيمكنه أن نسأل ما فائدة ما يقومون به وما يفيدون الربّ عزّ وجلّ بأقوالهم وافعالهم وجهدهم وماذا يستفيدون من كل ذلك ؟ فما هي جدوى وفائدة العبادة بالنسبة للربّ والعبد؟
الربّ عزّ وجلّ هو الذّي شرّع الدّين وبعث الأنبياء والرّسل مبشّرين ومنذرين وفرض العبادات يجازي على فعلها ويعاقب على تركها "ويفعل ما يشاء" ,إذن هي مسألة هامّة في حياة البشر ولا يمكن أن يتغافل عنها الإنسان فهي فرض عين لا يمكن أن يتجاهلها الإنسان الرّاشد ويكون غير معنيّا وغير مهتما فهي مسألة أساسيّة جوهريّة مرتبطة لاصقة بمعناه بوجوده ومصيره.
لفكّ معادلة قطبي الوجود والتمييز بينهما ننطلق من الصفات والخاصيات لكل منهما :
-من صفات الربّ :
أنّه خالق رازق قادر غنيّ عزيز حيّ دائم قيوم عالم الغيب والشهادة عدل حق..... له الأسماء الحسنى والصفات العليا التامّة الكاملة.
-من صفات العبد :
أنّه مخلوق مرزوق عاجز فقير ذليل حيّ فاني جاهل تابع بالعبوديّة هو عبد موجود بالربّ وجوده بالإضافة لا يمثّل في حقيقته إلاّ أعيانا ممكنة موجودة بحكم التبعيّة.
إذن صفات العبد متناقضة تماما متباعدة كليّا وهي على طرفي نقيض مع صفات الربّ سبحانه فلا تمازج ولا خلط بينهما لذوي الأبصار وأولي الألباب. "مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان " سورة الرحمان المسألة إذن مفهومة معلومة ومحسومة لتباين الصفات وتباعدها وتناقضها أصلا وجوهرا وحقيقة ولا التقاء بينهما بتاتا. صفة العبد تستوجب العبوديّة والطاعة للربّ , فالعبوديّة إلى جانب أنّها انتظام وانسجام وتوافق مع نواميس الكون (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابّة والملائكة وهم لا يستكبرون ) سورة النحل إنّها نوع من الشّكر والخضوع للربوبيّة المتعالية المطلقة إنها إحترام وحسن تقدير لفاعلها وإنها خسّة وعار وخيبة وشقاوة لمنتهكي حرمتها والمجدّفين ضدها والمعطّلين لها .
(وما قدروا الله حقّ قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسّماوات مطويّات بيمينه ) سورة الزمر العبوديّة هي سبيل لتحقيق هذا التقدير الجيّد والاعتراف بالجميل وشكرا للنّعم الظّاهرة والباطنة وتتحقق العبودية في قيام العبد بفروض الطاعة .
لو تفحّصنا الصلاة كأحد أرقى وظائف العبوديّة نتبيّن معاني ودلالاتها. الإنسان خلقه الله ثمّ صوّره وهو قلب ونفس (قالب) وعقل (قبس) وحركات الصّلاة قيام وركوع وسجود. هناك تقابل وتوافق بين بنية العبد ووظيفة العبوديّة. فالقيام:عقل وقد رفع التّكليف عن فاقد العقل فالدّخول للصلاة يستوجب وجوبا حضور العقل . أمّا الرّكوع :نفس فعندما يركع الإنسان ينحني تواضعا وانكسارا بنفسه وقالبه لجلالة مولاه منكرا ذاته مقرّا له بالعبودية الحقّة.
السّجود :قلب فعند سجوده يحقّق الإنسان عبوديته وينمحي كبريائه وأنفته وآنيته امام ربّه الكبير المتعالي . يقول الرّسول صلّ اللّهم عليه وآله وسلّم عند سجوده "سجد لك سوادي وخيالي وآمن بك فؤادي, سجد وجهي للذّي خلقه وشقّ سمعه وبصره " ويقول داوود عليه السّلام "أعفّر وجهي في التّراب لسيّدي فحق له إن سجد ". حركات الصلاة ليست حركات اشباح فلها دلالات ومعاني تبرز بوضوح ترابط بنية الإنسان بوظيفة العبوديّة فتتوافق مع طبيعة تركيبة الذّات . (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون ) سورة الذاريات إنّ العبوديّة هي من صميم الفطرة البشريّة فهل يعقل أن يفسّر النزوع الطبيعي للعبادة لدى الإنسان تفسيرا اقتصاديا أو اجتماعيا أو سياسيّا أو نفسانيّا فقط أو كرد فعل تجاه شعور الإنسان بالعجز عن إيجاد حل لمشكلاته المستعصيّة ؟! أو هو وهم وسلوك للهروب من تحديّات الواقع والزّمان ؟!
فهل يمكن أن يفسّر النّزوع إلى التديّن لدى البشر بتفسيرات ماديّة بحتة ؟ إنّ جميع التّفسيرات الماديّة قد اغفلت ماهيّة الدين الحقيقيّة او جانبه الرّوحي أو الغيبي وكونه فطرة مغروسة في اصل النّفس البشرية فالدين غيبا وميثاق الفطرة موجود وشاهد على كلّ البشر ولذلك سوف يسالون ؟ (وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين ) سورة الأعراف لقد استجابت كل الإنسانية عن بكرة أبيها من أولها إلى آخرها في عالم الأرواح يوم كانت أعيانا ثابتة في علم الله وأقرّت بالربوبيّة لله وحده ولكن عندما لبست ثياب الدّنيا انحرف كثير من البشر عن فطرتهم وحادوا عن الحقّ والصواب رغم تحذيرات وإنذار المرسلين والأنبياء والعلماء وتذكيرهم بميثاق فطرتهم إذ الحجّة ثابتة عليهم جميعا .
إنّ العبادة هي قمّة التّجريد والتّفريد والتّوحيد لذلك يستعصى فهمها واستساغتها من مشوّهي الفطرة ومطموسي البصيرة عبيد المادّة ويتقنها الموحدّون العارفون فهي حرفة لمن أتقنها . حسب طبيعة الإنسان ومشاعره وسلوكه تجاه الدّين يمكن أن نتبيّن صنفين من البشر:
أ-صنف وجداني عاطفي :
يميل إلى الفطرة وسلامة الطوية فلا تستعصي عليه العبوديّة وهو أقرب لتعاليم الإسلام والخضوع لمولاه والعبادة ولكن قد ينحرف ويتوه عن مقصده ويشرك بالله خاطئا في مدار تعلّقاته فيعبد ويتّبع بسذاجته وبساطته غير الله سبحانه وتعالى.
ب- صنف يستعمل عقله :
يميل إلى النّقد والجدل قد ينغمس في الدّنيا بنفسه وهواه ويستعمل عقله الحسيّ وقد يبتعد عن تعاليم الإسلام فتستعصي عليه العبوديّة وقد يستحيل رجوعه للجادّة والصواب . ومن هذا الصّنف نوعين : _نوع ممكن معالجته وإصلاح اعوجاجه وانحرافه وقد يهتدي إلى الحقّ برجاحة عقله وكياسته وبذكائه وإرادته الصادقة للكدح والبحث عن الحقيقة.
تغلب لطافته كثافته وسعادته شقاوته وكلّ بتوفيق من الله والله أعلم بالمهتدين . _نوع تصعب معالجته وإصلاحه وقد لا يهتدي إلى الحقّ برعونته وكبريائه وغروره وقيد عقله الحسيّ والإبليسي فيفقد الوجهة الصحيحة وبوصلته تماما فيتوه في السّبل الشيطانيّة ويحسب نفسه أنّه يحسن صنعا لغلبة كثافته لطافته ومادّيته روحانيته وشقاوته سعادته.
إنّ لباس الدّنيا وكثائفها وحجبها اغشت عديد البصائر وأماتت الكثير من الضمائر والغت عقول وحجبتها عن قضاياها ومسائلها الأصليّة الأساسيّة فلا عادت تفكّر في خلق الله وآياته ونعمه استقلت إستقلال وهمي عن مولاها ونسيت الله فأنساهم أنفسهم.(ولا تكونوا كالّذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ) سورة الحشر.