تأملاّت من وراء الصورة والصيرورة

Photo

غشاوة الحسّ والكثائف تفقد البصيرة نورها وتحجب العقل والقلب عن الإدراك والشّعور بالحقيقة ومطالعة الغيوب إنّ قراءة الواقع بصفة خاصة والوجود بصفة عامة نتيجة لتراكم الخبرات والتعلّم من مدرسة الحياة وتختلف نوعيّة القراءة من فرد لآخر حسب طبيعة شخصيته ومستواه المادي والعلمي والثقافي والإجتماعي ويكون حكمه وإنطباعاته تبعا لقالبه المعنوي الذي يتشكّل من طبيعته وطبعه وإنعكاس الحسّ في مجال معناه وغلبة السّائد على المتنحّي.

هل أنّ الإنسان كائن دنيوي بإمتياز يتغذّى من التراب يتنفّس هواء المحيط ويتواصل في بيئته بأعضائه الحسيّة تثيره المنبّهات ؟ أو هل هو كائن مفارق مغترب عن معناه ؟ إن كان كائنا دنيويا صرفا فالمنزل يحويه وبيئته تستوعبه تحيط به والقبر يضمّه وتنتهي قصّته بفناء ذكره وغياب جسده وحسّه وحركته. وإذا كان مفارقا مغتربا بمعناه فالمادّة ضرورية غير كافية لكمال وجوده فجانبه المعنوي هام في تحديد وجوده فغيابه جسدا وحركة عن مسرح الحياة معنى من معاني وجوده البعدي وحضوره بهويّته الذاتيّة النفسيّة والروحيّة المتجاوزة للمادّة وعالمه الحسيّ في عالم الغيب يكشف عن حقيقة معناه.

يقابل الإنسان الدنيا في حياته بجسده وماديّته وأدواته الحسيّة ويسعى كادحا لنيل حظوظه وتحقيق آماله ويسهى وينسى بعده المعنوي الملازم له مرافقه عبر مراحل وجوده المستمر التي لا تنحصر في وجوده الزمني ولادة-ممات وفاته ميلاد جديد بنزع لباس الحسّ ثوب الدنيا ودخوله عالم البرزخ وتجسّده بروح ملكيّة لا تغادره ليسكن مسكنه النهائي بعد رحلة السفر.

إذا لم يتيقظ وينتبه هذا الإنسان لوجوده المعنوي الباطني تاه وغلب وجوده الظاهري الشٌكلي وأحاط به محيطه وإطاره المعرفي والتفسيري. فإلى جانب عالم الشهادة عالم الصورة والحسّ والحركة عالم الظاهر هناك عالم الحقيقة عالم الباطن ويفقد الإنسان غالبا حقيقته المعنوية في سيره الدنيوي فهو ظالم لنفسه جاهل غافل مغرور مخدوع بذاته والآخرين غير واعي ومدرك للحقائق وتغيب عنه حقيقة معناه. يحيط به زمانه تؤطره الأحداث تجتاحه الصور والمظاهر والأشكال وتغشوه الكثائف الحسية فينصاع لها لتفرز صورته الجسدية ومخياله إلا من رحم الله من عباد الله الأصفياء الأخيار.

في عالم الصورة والحسّ والحركة يسعى يشعر يعبّر يعلم يفهم يدرك يشارك يعيش اللحظات ويذوب منغمسا منفعلا في عديد الوضعيات والإشكاليات. ويغيب معناه في عالم المعنى والحقيقة غافلا غير مدركا غير واعيا فهو يحمل أجله وأقداره ولا يعلم مصيره ومآله يتمتع بوظيفتين أساسيتين التغذية والتكاثر عناوين بارزة لوجوده الدنيوي ؛ وظائف تربطه برباط وثيق وتعمّق وجوده الدنيوي المادي وهو يختلف عن الكائنات النورانية الأخرى العاقلة "الملائكة" التي تنعدم وظائف التغذية والتكاثر لديها لعدم إنشغالها بضرورات الجسد ومتطلباته فهي الكائنات المطيعة لربها المتجانسة مع الوجود المعنوي يتقاطع معها الإنسان فقط في وظيفة التواصل رغم إختلاف مدلولاتها ودلالاتها وشتانا بين ذاك وذلك.

يبقى للملائكة العلامة الوحيدة البارزة والصفة المميزة المعنوية بمرافقة الحضرة الربانية وعدم مفارقتها وعدم اغترابهم في جوهر معناهم. إن الإنسان في لباسه الدنيوي في حراك وصراع مستمر لا يهدأ له بال وليس لوجوده راحة وطمأنينة لتواصل سعيه وتوجهه فلا يفتر ولا ينعدم فكره عن التفكير وقلقه وإنشغاله فهو يعيش اللحظة والحاضر بآلام الماضي وآمال المستقبل. يتمتع بهامش من الحرية تجعله يخطأ وربما يتهّور وينزلق وينحرف فيمرح ويلهو ويعبث مستهلكا وجوده الحسيّ الظرفي والمعنوي فيستعبد ويشقى من حيث يعتقد أنه حرّ طليق سعيد فالحريّة الإنسانيّة الغير مقيّدة بضوابط تخلّف الإذلال والعبوديّة لغير الله عزّ وجل.

يتعرض الإنسان في دنياه إلى عمى الكشف الغيبي لعدم تجانسه مع عالم الغيب والمعنى لفراقه وضياعه وغيابه عن روح معناه. فمتى يعانق الكمال أو يسعى جاهدا لتحقيق معناه الحقيقي وليس ذاته السطحيّة؟ متى يسعى للتفكير في اللامفكّر فيه ومتى يضع تفكيره موضع تفكير ليقيّم توجاهاته وسلوكياته ويعيد إنتاج ذاته ؟

وحتى لا يعتبر ما يحيط به وما يشاهده وما هو مسخرّ له وما ينتفع به من تحصيل الحاصل ! بل عليه بتعميق تفكيره والولوج الى الحقائق من خلال إختراق الظواهر والمظاهر بنور البصيرة وأن يتريّث قليلا فحركة الزمان تستمر لا تتوقف وعقل الإنسان للإفلات من ضغط المكان والزمان وخديعة النفس وأخيه الإنسان والتوازن في دنيا اللاتوازن بالتفكير والتدبير.

القلب للشعور والأحاسيس والنفس للسعي والكسب والتّواصل والفطرة لسلامة الضمير والضمير لنقاوة الفطرة والغريزة لتحقيق أفعاله الإنعكاسية حماية للبشر وليست إثباتا لحيوانيته والروح للعبادة والإقلاع من المبنى الكثيف إلى المعنى اللطيف. إن معالجة الإنسان هي كلية وشاملة تتناول كل أبعاده النفسية-الذهنية-القلبية -الروحية والبيئية.

متى عليه أن يسرّع نسقه؟متى وجب عليه أن يفرمل مشاعره وعواطفه تفكيره وتواصله؟ متى عليه أن يغيّر من نسقه فيعدّل من إراداته وميولاته وتوجهاته ويتحكّم في مصيره؟ إجمالا تغلب الإنسان الإحاطة الزمانية-المكانية-البيئية في محيطه فتعزله جبرا عن ذاته وآنيته وقد يتفاعل بطريقة أنانية ولكن في اطارها الإجتماعي والتفاعلي والإنفعالي هي مجرد إنعكاس للذات في قلب الموضوع لتزيده إحاطة أخرى من شغل وهم نفسه وشواغل الآخرين ؛ وللتخلص من ضغوط بيئته والإنفراد عليه بالإنعزال أو إتخاذ مسافة الآمان عن كل ما يجري في محيط إحاطته للسلامة من الإندماج والإنصهار وربما الذوبان في دوائر ورحى الأحداث والمجريات والمتغيرات.

الإنسان ذلك هو القالب النفسي الذهني في إحاطة زمانية -بيئية يسلك سلوكات متعددة بإختلاف مستواه ودرجة إرتباطه وإستقلاله وبمقدار تعلقاته وآماله وبقدرة صبره وإستماتته وبقدر عزيمته وهمّتـه وهمّه يتطوّر أو يتقهقر يؤثر أو يتأثّر ينتج و يستهلك يبدع أو يجترّ العادة يتكيّف مسلوبا لمقومات كينونته أو سالبا لكل معوقاته وحواجزه وإكراهاته مثبّتا ذاته كادحا لتحقيق آماله وأهدافه في دائرة وجوده ونسق حياته.

هو الإنسان في صراعه وكسبه وإكتسابه سابحا في بحر دنياه مفارقا لجوهر معناه وحضرة مولاه متواصلا متّصلا ببيئته ومحيطه يرجى خيره وبرّه بإقتلاع جذور مساوئه وغرس فسائل محاسنه وتطعيم إيجابياته وتقليم سلبياته يقظة وصحوة لمعناه.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات