ويبقى الأامل قائما رغم المحن والأزمات وقتامة المصير

Photo

"رغم الدّاء والأعداء"

لم ترتقي هبّة الشّعب العفويّة إلى حقيقة الثّورة بمعناها الشّامل من تغيير الأسس والبناء وفتح أبواب الأمل والعمل. لقد عانى الشّعب الاضطهاد والإرعاب وحكم الفرد والزّعيم الواحد وتفرّد الحزب الواحد بالتوجيه والقيادة ,فظلّ ساكنا خاضعا حتّى انفرجت الأزمة ذات يوم فاصل ومنعطف تاريخي فارق ّ أدّت إلى سقوط رأس النّظام وتهاوى حكمه .

لقد كانت هبّة تلقائيّة عفويّة تتالت أحداثها واشتعل لهيبها نتاج لتراكمات سنين قهر وتصادمات وظلم وحيف اجتماعي لدكتاتوريّة الفرد الواحد والحزب الواحد ,فلقد استبطن الشّعب القهر والظلم والغبن , وحين حدث الانفراج حالت القواطع والعقبات من معوقات نفسيّة ودواعي لأحقاد دفينة مغيّبة في النّفوس واختلافات إيديولوجيّة عميقة وصراعات معلنة لزعامات واهمة وبطولات زائفة لحكم البلاد والعباد لم تنتهز الفرصة التاريخية للتغيير والقفز بالواقع إلى آفاق ثورة حقيقية بحلول زمن جديد بفرض واقع جديد يرتقي بالوطن والمواطن ,

ولكن خاب المسعى وتحوّل الحلم إلى كابوس والأمل إلى ألم بتتالي الأحداث المؤلمة وعوضا عن مقارعة الأزمات وتخطّي الصعوبات برزت الأوهام والأماني الزائفة والوعود الكاذبة والاستعراضات الثورجيّة حتى حدا بنفوس ضعيفة إلى ذكر محاسن الزّمن البائد وتمنّوا توقّف عجلة الزّمن والرجوع إلى الوراء , ولكن هيهات فالتّاريخ لا يرحم وعجلته لن تكفّ عن الدوران سائرة إلى الأمام مخلّفة الماضي إلى الوراء . "رأيت الدّهر مختلفا يدور فلا حزن يدوم ولا سرور وقد بنت الملوك به قصورا فلم تبق الملوك ولا القصور".

الدّاء:

العراقيل والمعوقات عقبات وصعوبات حالت دون تحقيق الآمال وتجسيم الأحلام المشروعة لبناء جمهوريّة العدل والإنصاف الحريّة والديمقراطيّة والرفاهيّة.

1-الهبّة الشعبيّة:

كانت عفويّة وتلقائيّة دون قيادة ثوريّة وقوة طلائعيّة وغياب بوصلة ورؤية إستراتيجيّة ومعرفة بمتطلبات المرحلة لتجاوز واقع الفوضى والانفلات والإرباك فلم ترتقي إلى واقعيّة ثّورة صاعدة التّي تتحقق على ارض الواقع بآليات موضوعية مدروسة وعزيمة صلبة لمغالبة الصعاب وقهر الأزمات والمحن.

لقد كانت هبّة عفويّة دون وجهة وتوجيه وتحديد لأهداف مرحليّة للإنجاز والتحقيق ودون إلمام بحقيقة تحديّات الواقع الجديد وصعوباته واكتفت بسقوط رأس النظام وحالت حالة الانبساط والانفلات عن التدبّر والتعقّل والتحكّم في مجريات الأحداث فحصل الإرباك والإخفاق.

2-ثقافة الشّعب وسلوكه:

معوقات تكمن في ثقافة الشعب ,مزاجه وسلوكه الانعكاسي الشّرطي ,تربيته التّي جبل عليها طيلة الحقبات التاريخيّة السابقة ,لقد ظلّ متسامحا محبّا للحياة ناشرا لأجنحة السّلام والوئام منضبطا لسلطة الحاكم وسطوة الدّولة غير باحثا للتغيير ولا متلهفا للسّطو على الحكم ومناقضة الحاكم ,

لم يكن هاجسه التغيير وافتكاك الحكم وقلب المعادلة لصالحه ولكن بعض من شرائح المجتمع الواعيّة والنّخبة المثقفة سكنها هاجس الثورة وتغيير النظام بنظام عادل حرّ ديمقراطي فلقد انتصبت معارضة للسلطة مناقضة لها وحلمت بالثورة على مرّ ردهات التاريخ وتجلّى سلوكها جليّا في حرم الجامعة وفي العمل النقابي وبعض مؤسسات الدولة.

لقد كان الشّعب دائما في خضم مجريات الأحداث والردهات متخليّا عن دوره في القيادة والريادة منحنيّا لقوته اليومي وعاداته المترسّخة , وكان في بعض الفترات يهبّ غريزيا ووجدانيا منتفضا محاولا بلاوعي تجاوز سجّانيه وسالبي حقوقه المتمتعين بخيرات وثروات البلاد ,ولكن سرعان ما يغلب طبعه المسامح وطبيعته المسالمة حالته الفالتة المندفعة ( مثال ثورة الخبز) ليلتصق العاطفي بالمادّي واليومي فيستمرّ مسار الشّعب والكادحين والمسحوقين مرتدّا إلى واقعه المعاش مستسلما لقدره الاجتماعي-الاقتصادي والثّقاسياسي.

3-الطبقة والنخبة السياسيّة:

إنّ الفرصة السانحة التّي وفرتها الهبّة الشعبيّة التي أسقطت رأس النظام لم تستفد منها الطبقة والنخبة السياسية التّي تصدّرت المشهد السياسي, بل طفت وطغت حسابات سياسيّة وحزبية بحتة على حساب مصالح الوطن وبرزت الخلفيات وخفايا الإيديولوجية الرابضة في العقول وتجلّى بوضوح للمجتمع ما كان يدور في أسوار الجامعة زمن الثمانينات من صراعات وتصادمات وعراك سياسي ومن اختلافات عميقة وخلافات جوهريّة فلا التقاء ولا تواصل بل شجار وخصام وتنافر, لذلك انحسر المدّ والزخم الثّوري وإجترّ معارضي النظام السابق خصوماتهم القديمة .

إنها الأحقاد الدّفينة المغيّبة في القلوب وإن تقادم عهدها المانعة للتّفاعل والحوار والبناء والتقدّم من أجل الوطن, إنّه الدّثار الإيديولوجي السّاتر للعقول والأبصار لمعاينة الحقائق والتعامل مع الواقع بفقهه لا بوهمهم ولا بالأنماط والقوالب الجاهزة المحنّطة النابذة للتوافق الجاذبة للتنافر.

لقد خاب المسعى أمام غياب ثقافة حقيقيّة للتسامح والتواصل والتفاعل من أجل الوطن فلقد غلب الصراع والاختلاف. إذن هي خيبة مزدوجة نتاج طبيعة شعب تعوّد على السلبيّة وعدم ممارسة السياسة وأبعد قسرا عنها فلم يتمرّد ويصرّ لنيل حقوقه وطبقة سياسيّة لم تتعوّد على الممارسة الديمقراطيّة التّي تعلن قيّمها ظاهرا وشكلا وتغتالها باطنا ومعنى.

لقد غابت عنها إستراتيجية معالجة الواقع بالعلم وفقه أحوال المنازلات فكان الإخفاق وحضر لديها الهمّ الحزبي وردائها الإيديولوجي. فلقد كانت عاكفة مشغولة مهمومة بالقيادة و تدافع عن حظوظها وأحلامها وأوهامها لحكم البلاد وقيادة العباد لأنها ترى نفسها الأجدى والأقدر لنمذجة المجتمع وتوجيهه ضمن رؤيتها وخيالها وأحلامها وأوهامها القياديّة.

قديما كان الشّعب يستبطن القهر والظلم ساكنا خاضعا لا يريد أما الآن فالشّعب يريد ويعبّر ملئ مهجته ووجدانه قد تحوّل سرّه إلى علن وانفلت عقال صبره فضاع في بيداء النّخبة والطبقة السياسيّة .

الأعداء:

أعداء الوطن من الداخل والخارج من لا يسعدهم استقرار الوضع ونجاح الانتقال الديمقراطي لأن في ذلك خيبتهم وفقدانهم مصالحهم الشخصيّة فقد ظلوّا متربصين لسرقة أحلام الشّعب وطموحاته يسعون لإشاعة الفوضى وديمومتها وتأبيد الأزمة وترسيخ ثقافة الفوضى والانفلات وتجذ ير الخيبة ,حتى لا يهتدي الوطن بمخلصيه وشرفائه إلى تفكيك الأزمة وحلّ معادلاتها الصعبة حتّى تظلّ تونس الخير والمحبّة والأنس بركة للدماء ومقبرة للشرفاء ومرتعا للفوضى والانفلات والحيرة.

رغم الدّاء والأعداء:

إنّ الأحقاد لا تبني أوطان وإن التدثّر بالرداء الحزبي والتمسّك بقوالب الإيديولوجية وكذا التهافت والتسرّع لحكم البلاد والعباد والصراعات الشخصيّة والمناورات الحزبيّة تعطّل مسار الوطن وتحيل الشّعب للفوضى والانفلات فلا تلجم غريزته بل تلهب مشاعره وتتقاذفه أمواج العدم والمجهول لتفقد مصداقيّة الشعب تجاه الطبقة السياسية وتسقط نفوذهم المعنوي لأن من أراد خدمة الوطن وأدّعى حبّ الشّعب وحمل آماله عليه أن يضحّي ساعيا كادحا لإيجاد الحلول ناكرا لذاته خادما أمينا لشعبه .

إن الاختلافات والخلافات تعمّق الأزمة وتسمح للأعداء المتربصين بالوطن الدوائر باختراق النّسيج المجتمعي وتمزيقه وتفتيت الوحدة الوطنيّة وزرع بذور الفتن ليتسللوا إلى مكامن ثروة الوطن المعنويّة والماديّة فيلتهمونها إن سنحت لهم الفرصة.

ولكن يبقى الأمل قائما وإرادة التغيير واردة مادام في وطننا رجال مخلصين صادقين أشاوس يؤلمهم الواقع الصعب المرير وتبقى ذكرى الشهداء الأبرار نبراسا وضّاءا دافعا للنفوس الشّهمة الشّريفة للعمل والسعي جاهدة دون كلل ويأس وإحباط لحلّ المشاكل العالقة وتجاوز الأزمات الخانقة.

فتونس تحتاج إلى أحرار الوطن وشرفائه ومخلصيه لإنقاذه وبنائه والسعي لإفادته والرّفع من شانه وازدهاره ورفاهيته وتخليصه من أزماته بوحدة وطنيّة صمّاء تنمحي وتزول فيها كل الخلافات والاختلافات وتنصهر فيها كل الإرادات الصادقة والنوايا الطيّبة والأفعال القيّمة لخدمة الوطن ونمائه.

فمن يحوّل خريف الوطن إلى ربيع مزهر مزدانا برحيق ونكهة وطيبة شعبنا المسالم ؟ حتما ستسير السّفينة بمن وعى وتعقّل وهمّ للعمل وثابر وسعى لمصلحة الوطن وستنزاح بإذن الله الغمّة وتنجلي الأزمة " وكلّ الحادثات إذا تناهت فموصول بها فرج قريب ". وستغرق أمواج البلايا والمحن كل الحانقين والحاسدين والمتربصين في بحر عدوانهم وعداواتهم وحنقهم وبغضهم غير مأسوف عنهم لأنهم من سقط متاع التاريخ رسبوا وترسبوا في حوض ترسّب نزق أخلاقهم وشرور أفعالهم وضيق آفاقهم .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات