إنّ ردّ الصراع الدائر بين الشق الدستوري وبين الشق اليساري في نداء تونس الى الاختلاف في الموقف من النهضة هو في أحسن الأحوال تفسير سطحي واختزالي ، وفي أسوئها تفسير مغالطي. فالصراع بين هذين المكونيين يحكمها أساسا ذلك "الكسر البنيوي" الذي أنجزته الثورة في طبيعة العلاقة بينهما باعتبارهما جزئين وظيفيين في بنية السلطة .
لقد دفعت الثورة بالقوى اليسارية(المتحزبية والمستقلة والنقابية) الى واجهة المشهد العام، وأخرجت الوجوه التجمعية (او المحسوبة على التجمع حتى من بين اليساريين) الى الهامش(بحكم الضغط الشعبي الذي كان يدفع الى المعاقبة الجماعية للحزب الذي قامت الثورة ضده، ولكنّ هذا الحزب استطاع أن يخرج من عين العاصفة بأخف الأضرار عندما قبل بالخروج بصورة"مؤقتة" من المنافسة على السلطة واستبعاد أغلب رموزه ورؤوس أمواله من الاستحقاق الانتخابي لسنة 2011). لقد وجد اليسار الذي تحالف مع الدولة العميقة لمواجهة الترويكا وإفشال تجربتها(سواء أكان ذلك التحالف تحالفا تكتيكيا أم كان تحالفا استراتيجيا ) نفسه مضطرا الى أن ينفخ الروح في هذا الجسد "المتماوت"(أي الذي يدّعي الموت لإبعاد العيون "الثورية "عنه)،واضطرّ الى أن يساهم في "التطبيع" مع رموزه ومع "مناضليه" الذين ما قامت الثورة الا عليهم، كما ساهم اليسار في "شرعنة" العودة المظفّرة للماكينة التجمعية، تلك الماكينة التي تجندت الكثير من الأصوات للدفاع عنها أثناء محاولاتها لإعادة التموضع والانتشار تحت غطاء"العائلة الديمقراطية" (أي تحت يافطة التحالف "الحداثي" المقدس ضد القوى "الرجعية" و"الظلامية" المهددة للنمط المجتمعي).
وكان للتوافق الذي طبع موقف أغلب القوى السياسية من مسألة العزل السياسي دورٌ هام في إضعاف القوى اليسارية التي بقيت (كما عبّر عن ذلك السيد حمة الهمامي في أحد تصريحاته) تأمل في أن ينسحب التجمعيون (بقرار سياسي واخلاقي مسؤول) من المنافسة الانتخابية وأن يضع "نداء تونس" شخصيات يسارية "مناضلة" على رأس قوائمه. ولمّا كانت السياسة غير محكومة بمبدأ الرغبة(بل بشبكات مصالح ورعاية متبادلة ، وهي شبكات ذات طبيعة زبونية ولكنّ بنيتها الصلبة تظل جهوية)، فقد كان من المنطقي أن تحاول الماكينة التجمعية الاستغناء عن خدمات "الوكيل" اليساري دون أن تدخل معه في صراع مفتوح. وكان ذلك يعني أن يدفع التجمعيون بأبنائهم (أبناء المنظومة القديمة) الى مراكز السلطة الأساسية بما في ذلك رئاسة الجمهورية وقيادة النداء وعضوية المجلس النيابي(فأغلب نواب النداء-أي اكثر من 52 نائبا-هم من التجمعيين الصرحاء او من القريبين من التجمع والمستفيدين منه زمن بن علي).
وقد ولّدت هذه التوزنات الجديدة وضعا "إشكاليا" لا يخدم القوى اليسارية التي استلمت "قيادة" المراحل الانتقالية كلها (او على الأقل "شُبّه لها") ولكنها ترى أنّ المسار الحتمي لإعادة التوازن للمنظومة القديمة (وهو المسار الذي ساهمت فيه القوى اليسارية والنهضة على حد سواء) هو إعادة اليسار الى دوره التقليدي باعتباره "هامشا" للمنظومة البرجوازية الحاكمة (وأداتها أو حليفها في الثقافة والإعلام والعمل النقابي ( لو أردنا تحديد طبيعة الصراع في نداء تونس وطبيعة رهاناته القصوى، لقلنا إنه صراع يتعلق بقلب المواقع التقليدية داخل البنية السلطوية التي هيمنت على "الدولة الوطنية" منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا: أي تحوّل ا"الهامش "اليساري الى مركز السلطة(بالاعتماد على رمزية الثورة والرأسمال "النضالي")، واستبعاد المركز التجمعي الى هوامشها(بالاعتماد على "شبهات" الفساد وعلى الماضي المستراب لأغلب رموزه).
ولذلك فإنّ مسألة العلاقة بحركة النهضة ليست إلا ملفا من جملة الملفات التي يمكن أن يوظفها الطرفان المتصارعان في تحسين شروط التفاوض لكن دون أن تكون هي سبب الصراع (فاليسار الثقافي من الممكن أن "يُليّن" موقفه من النهضة كما يمكن لمواقف التجمعيين أن تتصلب تجاه الحركة وذلك انطلاقا من "إملاءات" الأطراف "الراعية" للمعسكرين المتصارعين وانطلاقا من الأوراق التي تملكها مونبليزير في توجيه الصراع وفي التأثير الحقيقي على مآلاته القصوى). لقد كان اليسار طيلة زمن بن علي موزّعا بين معارضة راديكالية متشتتة وغير قادرة على تغيير الواقع السياسي(خاصة حزب العمال)، وبين يسار ثقافي (هو يسار السلطة) مثلته بعض الشخصيات المستقلة القادمة من العائلة الوطنية الديمقراطية (خاصة "الوطد" الذي انتمي اليه اغلب المحسوبين على التيار اليساري في نداء تونس مثل محسن مرزوق وناجي جلول وسعيدة قراش وغيرهم).
وقد دفعت الثورة بمختلف مكونات اليسار(اليسار الراديكالي المناضل واليسار الثقافي المدجّن) الى واجهة الأحداث وأكسبتهم سلطة لم يكونوا يحلمون بها زمن هيمنة التجمع في عهد بن علي( حيث كان اليسار مجرد ملحق وظيفي بأجهزة السلطة القمعية والايديولوجية، خاصة في قطاع الثقافة والإعلام والعمل الجمعياتي والنقابي). ولكنّ منطق المنظومة القديمة(وهو منطق جهوي في جوهره رغم اليات اشتغاله الزبونية/المافيوزية) لا يمكن أن يقبل باحتلال اليسار لمركز السلطة واستبعاد "أبنائه" منها، وهو واقع سياسي ينذر بصراع "كسر عظام" بين "الإخوة الأعداء"، و من غير المرجح أن ينتهي هذا الصراع الى نتيجة تضمن التعايش بين الأطراف المتصارعة، وذلك بحكم أنّ إدارة الصراع على أساس ايديولوجي يجعل من المستحيل أن توجد سلطة "توافقية" برأسين(رأس تجمعي ورأس يساري)..