خلق الله الخلق و جعل فيهم السنن و الآيات...و جعلهم كمسارات و سياقات ودروب يسير فيها الخلق بانتظام و نظام...تتجلّى هذه السنن و الآيات كقوانين تحكم الخلق كلّه إن كان على المستوى الكوني( بمنظار كسمولوجي) أو على المستوى الجزيئي ( بمنظار تقنية الصغائر أو تقنية النانو)... المستوى الكوني العام هو عالم يحتوي على كمّ هائل من المخلوقات من كائنات حيّة و كائنات لاحيّة مترابطة فيما بينها بعدّة علاقات فيها الدائم و فيها المستجدّ وفق التغيّرات الكونيّة و هذه الكائنات في هذا المحدث الكوني أو الحيّز الكوني تؤثّر في بعضها تبادليّا...خلق الله الإنسان و منحه قدرة عقليّة تمكّنه من تعقّل الأشياء و العلاقات و الأمكنة و الأزمنة... و أعطاه متسعا و قدرة على التخزين و الاسترجاع و التحليل و التأليف و التصور مع مساحة واسعة من الخيال و التجريد...جعل الله لهذا الإنسان العديد من الوسائط التي تمد عقله باحتياجاته الأساسيّة من المعرفة في ظلّ حركته المتناسقة مع حركة الكون و في فضائها و تتمثّل هذه الوسائط في السمع و الأبصار و الأفئدة « قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ» [الملك: 23]…
و قبل أن يمنح الله هذا الإنسان حرّية التفاعل مع الكون و ما فيه ومع كلّ ما يحيط به و ما سيحيط به بعد ذلك في ظلّ حركته الدائمة المتطوّرة ( من أضغر جزيء فيه إلى أكبر جزء) داخل الكون المُوسَع و المتحرّك زوّده و علّمه ما لم يعلم بل علّمه الأسماء كلّها « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ » [العلق: 1-5]. « وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين» [البقرة: 31].. و هي تعتبر كقرص صلب يحتوي على برنامج معلوماتي أوّلي و أساسي دمج في بنية العقل البشري من دونه لا يستطيع الإنسان تحقيق تعقّله الإنساني و قبوله الفطري بتحمّل الأمانة التي أبت السماوات و الأرض و الجبال حملها « إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا «[الأحزاب: 72] ممّا يمكّنه مع الآليات و التقنيات العقليّة و الذهنيّة و الشعوريّة ( تدخل فيها الحواس و الأحاسيس بما فيها ملكة الفؤاد) من التفاعل و مواكبة الكون وما فيه و مسايرة حركته بما فيها ( حركة كليّة و شاملة للكون و حركات متعدّدة ومتناسقة معه لمكوّنات الكون أجزاء و جزيئات)…
و حركة العقل حركة لا محدودة في الزمان و المكان من مساراتها سبر أغوار و مجاهل الكون و مكوّناته و تساعده للتعرّف على العلاقات الثابتة و المتجدّدة ( بالنسبة للعقل الإنساني الذي يسير في عالم الشهادة) المستودعة فيه (السنن الكونيّة)....و فضاء الحركة و التفاعل لهذا العقل فضاء تفاعلي و تراكمي بمقياس الإنسان الفرد و بمقياس الإنسان- الإنسانيّة جمعاء( مع الأخذ في الإعتبار التواصل التاريخي و الجغرافي و اللغويّ...)…
هذه الطاقات الجبارة الكامنة و المخزّنة لدى الإنسان الذي يكتسب مشروعيّة استغلالها و توظيف تسخيرها من أجله على أساس الرقي و المكابدة و المجاهدة للوصول لأعلى المراتب التي يستكشف فيها ما خفي عنه من السنن و القوانين في ذاته و في الكون الذي يحايثه بالتدريج و المراكمة....و بالقدر الذي تتعلّق همّته و إرادته في سنّة من السنن فإنّه من سنّة التسخير ينالها...و بالقدر الذي ينجح و يوفّق و يُراكِم الاستكشافات و يسير في دروب سبر الأغوار « قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [العنكبوت: 20]، و يكون انسجامه أكثر و تناسقه أعمق و أنجع في لحظته تلك مع ما استودعه الله في الكون من سنن و آيات ( وهذا يكون بمعيار فردي - يعود على الذات- و بمعيار حضاري يعود على جماعة و بمعيار عالمي - يعود على الإنسانيّة-) وكلّما تقدّم العقل البشري أكثر بمنهجيّة تتبّع السنن في منهجه و استطاع تحقيق انجازات في الكشف عن هذه السنن كلّما كان أقرب إلى الفهم و الوعي بالفضاء الكوني العام و بالتالي أقرب للخضوع و التسليم لتوحيد الربوبيّة و لوحدانيّة الخالق التي تيسّر له متى ما أضاف لها الإيمان بالرسل، الخضوع و التسليم لتوحيد الألوهيّة ومن خلال فهم السنن و الآيات يسهل على الإنسان العاقل أن يعقل ذاته ( جسد و روح و عقل) في رحاب من التوحيد الخالص التي هي أوسع و أشمل من الكون، توحيد فاعل و ديناميكي يعرج بالعقل الإنساني من مقامات التيه و الظمأ « وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» [النور: 39]. إلى مقام التبصرة و الإرتواء و الخشية و اليقين... « أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ*وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» [فاطر:28].
و كلّما زاد العقل الإنساني من تعقّله للسنن و الآيات زادت معرفته لمقام الربوبيّة...و إذا ما أضاف إليها المعرفة بالآيات و الآلاء في كتاب الله الخاتم، الكتاب المقروء و المحفوظ زادت المعرفة لديه بمقام الألوهيّة مع تهذيب تقني و داخلي و تطهير ذاتي (بمفعول الديناميكيّة و الحركة الفعالة لآيات الكتاب المكنون في النقل من الحالة المحاطة بالحجب إلى حالة الحريّة الواعية في ظلّ التوحيد الخالص من الشوائب و الانحرافات و الإنزياحات لعقل يمكن أن يسيح في الكسمولوجيا وهو غارق في العبادة و الخضوع لنزوات ذاته أو لنزوات ذوات أخرى تشبهه…