تونس الآن في فترة نقاهة، تحاول التعافي من الكثير من الأمراض العويصة و تجاوز العديد من المعضلات المركّبة و المتشعّبة، لذلك نعيش فيها تحت وطأة الإرتدادات المتتالية التي تنتاب جسمها و روحها و عقلها كما تتعرّض لأكثر من انتكاسة في مزاجها و سمتها العام و هذا طبيعي و معقول...لأنّ تونس أنهكها المرض و الإستبداد و الفساد...طيلة العقود الماضية و إذا أضفنا الجمود و التحجّر و العطالة التي مرّت بها طيلة القرون التي مرّت...فليس من السهل أن تتعافى بسرعة و ليس من الطبيعي و المنطقي أن نسبغ أحاسيسنا الفطريّة و التلقائيّة المستعجلة على طبيعة التغيّرات المجتمعيّة التي تتطلّب عزما و أرادة و قوّة و استدامة مع التأني و الحِلم و الصبر...و لأنّنا حقيقة قوم مستعجلون في كلّ شيء لذلك لا نترك المدى و لا الفرصة للتغيّرات كي تأخذ مداها و تختمر…
و لا أرى بدّا من ندفع بالتي هي أحسن كي تتبلور في كياننا نمط فريد لثورة هادئة، ناعمة و منفرجة في جميع الإتجاهات، ثورة ساكنة ومسكونة بالمعاني الكبرى و مستدامة و تهوى الإستثارة و لا الإستعارة و تثير حساسيّة القوى المتنفّدة و القائمة بل تسعى لتحييد قوى الإرتداد و الإنتكاس مع التقليل من الأعداء و التكثير من الحلفاء و لو بصفة مؤقّتة و ذلك بالعمل على جلب المنافع للناس و لو كان نفسيّا في شكل خطاب و تواصل…
وفي ساحتنا التونسيّة أرى من الجدوى أن لا تمسّ هذه الثورة الهادئة البنى الحاكمة و المتنفّذة و قوى الردّة و الجذب إلى الوراء، بل عليها أن تمسّ أوّلا البنى التقليديّة و الغير تقليديّة لمجمّعات المعارضة و المجتمع المدني، فهمُ أحوج إلى ذلك لكونهم أوّل من يمدّ الأعناق عندما تبحث الثورة عن أبنائها و لكونهم أتحفونا طوال السنوات الخمس بمشاهد ثوريّة لا تخلوا من العدميّة و الثورجيّة التي تمارس التهديم دون دراية وهي الأقرب إلى الهواية…
و متى ما تحصّلنا على معارضة هادئة عميقة و مسؤولة و عاملة مع جميع أطياف شعبها وقتها فقط يمكن الإطمئنان إلى بداية مسار الثورة الهادئة...و وقتها فقط يمكن إدراك اكتمال بدر الثورة بعد عقدين أو ثلاثة...نستقرّ فيها على وطن بنّاء و يسعد فيه أبناءه من كلّ المشارب و الحساسيّات بطعم و رائحة الحريّة والتحرّر و الإكتفاء الذاتي من المنافع الظاهرة و الباطنة…
أمّا المنظّرون ليلا و نهارا بثورة راديكاليّة و عنيفة و يبحثون عن مصعد سريع لها وهم لا يفقهون أدبياتها و لا طرافتها ولا فرادتها و بكونها لا تحصل إلاّ في مرّات نادرة طيلة قرون و لا تحصل إلاّ في وقتها و نضجها و توفّر شروطها و متى انسدّت كلّ المسام في الوطن ..و إن حصل ووقعت في غير وقتها فلن تكون نتائجها إلاّ عكسيّة و سلبيّة و سيئة على الأغلبيّة ولن تكون مخرجاتها إلاّ بيد إنقلابي موتور و مسنود من قبل القوى المتنفّذة داخليّا و خارجيّا…
و لكون هذه الفئة من المنظِّرين لا يطيقون صبرا على مسارات التغيير الهادئ و يتمنّون قطف النتائج المستعجلة فإنّ مشقّة الثورة الناعمة و بطأها لا يستوعبهم و لا يغذّي شبقهم المفرط...و لأنّ الثورة إذا لم تمسّ البنى السلوكية و التفكيريّة و الثقافية و السياسيّة...للإنسان المعاصر( المعرّض لكمّ هائل من التداعيات و الضغط المعلوماتي العالي...) فهي ثورة كاذبة و متحايلة و مجهضة لا تتمظهر و لا تشاهد إلاّ على صفحات الجرائد الأسبوعيّة و في العناوين الإعلاميّة المهجّنة التي لم تكوِّ بعد عجينتها…
و إن أردنا حقّا النصر على الفساد و الإستبداد و العمه السياسي و التأتأة الحزبيّة و الإعلاميّة فليس لنا طريق إلاّ سلوك الثورة الهادئة و الناعمة التي تأخذ في حسبانها القدرات و الممكنات و الفضاء الجيو-سياسي و المزاج العام و تحقيق المنافع على مهل و الرصيد التربوي و الثقافي و المهاري للمجتمع إضافة للمعضلات العويصة التي تتطلّب هدوءً و صبرا و زمنا كافيا و خاصّة اختلال التوازن بين الجهات و القطاعات و الأفراد إضافة للتوازن الهشّ الذي يظهر في نفسيّة الأفراد و القطاعات و الجهات و المجتمع قبل و بعد شرارة الثورة…