هل توفّرت شروط و ظروف التغيير؟

Photo

لنفترض غطاءً اسمنتيّا ثقيلا ( له قوّة جاذبيّة مرتفعة ) وُضع على فوهة مغارة بها عدد محدّد من الناس ( مثل مغارة أصحاب الكهف). لإزاحة هذا الغطاء المطلوب توفير قوّة مضادّة تفوق في قيمتها قيمة قوّة الغطاء الإسمنتي بمقياس عالم الناسوت ( مقياس عالم الشهادة الإنساني) و لأنّ قيمة قوّة هذا الغطاء أكبر من قيمة قوّة كل فرد داخل المغارة فإنّ كلّ المحاولات الفرديّة سيكون لا محالة مآلها الفشل، و هي إضاعة للطاقة والقدرة مع الزمن، أمّا إذا اتّحد الجميع أسفل الغطاء، و تواصوا بالمعروف و الخير على تجميع الطاقات على قلب رجل واحد...

فإذا كان مجموع قيم الطاقات الفرديّة في اللحظة التي سيتم الدفع بها لإزاحة الغطاء ( لحظة تجانس و انصهار و توكّل و تحديد الهدف المرحلي و الأساسي) تساوي أو تزيد قيمة قوّة الغطاء، فسيحصل الرّفع و إزاحة الغمّة عنهم...أمّا إن كان مجموع قيم الطاقات أقل ممّا يتطلّبه الرفع و رُغْمًا عن الإعداد الجيّد و الاستعداد و التآخي و التوحّد و الأخذ بالأسباب فإن الغطاء في عالم الشهادة و الناسوت لن يرفع أمّا إذا حضر التوكّل و الاخلاص و الخلوص عندها يأتي المدد من عالم الغيب من عالم الملكوت من عند الله وهو الواحد الأحد الذي يقدّر نسبة الرفع و الإزاحة أم لا، أمّا كيف ومتى يتمّ، فهو ليس من باب علم الإنسان بل من علم الله الخالص الذي لا يستطيع علم الناسوت أن يحيط به ( مثل ما حصل مع أصحاب الكهف)…

إذا لرفع أي غطاء لا بدّ لعلم الناسوت الواعي و المؤمن أن يوفّر الأسباب و الشروط والظروف التي تتطلّبها حالة الرفع و إلى أقصى حدّ يستطيع إلى ذلك سبيلا... و يبقى التوفيق و النجاح من عند الله ....أمّا إذا قصّر عالم الشهادة في توفير العدّة ( بأنواعها ماديّة و روحيّة و تقنيّة و معرفيّة و ذهنيّة نفسية..) و لم يتوفّر الصدق فإنّ عدم التجانس و الخُلفة و عدم القدرة على التعبئة و تهيئة الطاقات للإنبثاق في اللحظة المناسبة و المكان المناسب و الرقيّ المناسب سيكون فاعلاً عكسيّا لقيمة قوّة الرفع و سيبقى الغطاء إلى أجل لا يعلمه إلاّ الله ريثما تتوفّر شروط و ظروف الرفع.. و ستبقى كثافة و ثقالة الغمّة تحجز الجميع (البرّ و الفاجر) و تمنع عنهم الإحساس الفريد بتلمّس مسارب النصر و التغيير.

لنأخذ مثالا آخر...نفترض أنّ فردا واحدا في فلاة أو صعيد صاح بأعلى صوته لإسماع احتجاجه ضدّ الفساد و الاستبداد و الظلم... في بلده و بعد استجماع لكلّ قواه ( الادراكيّة و النفسيّة والصوتيّة ....مع حسن التوكّل) فهل يمكّنه ذلك و بمقياس عالم الناسوت أو عالم الشهادة أن يزيح و يحلحل هذا الفساد من مكانه؟

..لا أظنّ ذلك...أمّا إذا اجتمع أغلب الموضوعين تحت غطاء الإستبداد في مكان وصعيد واحد ولو كانت في فلاة و استجمعوا القوى و انصهرت الإرادات و تجانست و صاحوا على قلب رجل واحد...فهل يمكن ازاحة الإستبداد و إخافة الفساد؟

...هناك فرضيتين: الأولى أن تكون مجموع قيم قوّات الصيحات أكبر أو تساوي قيمة قوّة الفساد... النتيجة الانسانيّة المشاهدة تؤدي لا محالة لانزياح غمّة الفساد و الاستبداد عن الفتحات التي تمدّ الناس بهواء الحريّة و لو مؤقّتا ( ليست دائمة وخصوصا و أنّ الإنسان مجبول على الغفلة والنسيان لهذا تُسَنُّ القوانين الصارمة و تبنى المؤسسات المراقبة..) و عالم الغيب هنا يبارك و يرعى و يقدّر و يقضي (في الزمن الأرضي يتداخل الايمان والوعي و الاستمراريّة على الإخلاص و الأخذ بالأسباب الأرضيّة بما فيها الانسانيّة دون نفي للتدخّل الغيبي الذي يقدّره و يقضيه عالِم الغيب و الشهادة)..

أمّا الفرضيّة الثانيّة والمتمثّلة في كون مجموع قيم قوّات الصيحات أصغر ممّا يتطلّبه إزاحة بعبع الفساد و الاستبداد و الظلم الغشوم و بالرغم من توفر عوامل التجانس و الحضور و الاعداد فإنّ الاخلاص هنا هو المحدّد لرفع الغطاء و الإخلاص لا يعلم قيمته في النفوس إلاّ عالِمُ الغيب و الشهادة و بالتالي فإن حدث الرفع و الإزاحة فهي بتقدير و عون قدّره الله لإعانة عباده بعد توفّر شروطها أمّا إن حدث العكس فإنّه لا محالة نتيجة وجود نقص أو إخلال ما في حالة ما أو وضع ما أو في توحّد ما، جعل من القوى غير متكافئة ممّا يؤجّل الرفع و الإزاحة حتى يوفّر عالم الناسوت شروط الإعداد و الاستعداد و التعبئة للإستطاعة على الرفع...أمّا إن توفّرت الطاقات وهي كافية للرفع و حدث الإختلاف و النزاع و الخُلْفة فإنّ ريح التنازع تذهب بالنجاح و ريح التربّص تذهب بالطاقة و لا يُستطاع تجميع قيم الطاقات و عالم الغيب يترك لعالم الشهادة مجاله للتنازع في عالمه و تشتيت طاقته بنفسه لأنّه ليس أهلا وقتها لرفع الغمّة و تأجيلا آخر لميلاد النموذج الناجح الذي سيكون حتما لجيل آخر غير ذلك الجيل…

و المشهد الأخير هو ما أراه يحدث في أوطاننا التي تسعى لإزاحة الاستبداد و الفساد و إحلال الحريّة و بناء مؤسسات مستدامة تعاين تطوّر متطلبات المجتمع. مثلا في تونس استطاعت مجموع قيم الأصوات التي تجمّعت في الساحات ان تفزع الفساد و الاستبداد و تجعل رأسه يهرب في يوم مشهود لكن بخلفتها و تنازعها و تفنّنها في استحضار الصراعات القديمة عوض وأدها و بعد علمها أذهبت ريح الثورة و أهدت فجوات و فتحات عاد منها الفساد متدثّرا عذرية مقاومة الفوضى و الكسل الاجتماعي و الاضرابات و هيبة الدولة و أدخلته عنوة من جديد لمربّع السيادة...

و بالأخص أنّنا حايثنا و عايشنا النواتات الصلبة التي قدّمت نفسها لإدارة الشأن العام، و حمّلت ذاتها همّ التغيير و هَمَّ نقلة المجتمع من حال إلى حال و من ضفّة إلى ضفّة،أمّا انشغالها الباطني و الظاهري فتمحور عصبه حول الانتفاع بالمنافع الماديّة التي فنظرهم هي رافعة التغيير... فعوض بذر المنافع ليكون عائدها مفيدا للوطن و للمجتمع و بصفة أقل للحلقات التي تدور حولها و المرتبطة بها عضويّا (مثل الأبناء أو الأحفاد أو أحفاد الأبناء..الخ) أو المرتبطين و الدائرين بها معنويّا حسب درجات القرب في الزمن وفي الفكرة ( مثل ما يشاهد كيمائيا عند الذرّة بين نواتها و سحاباتها الالكترونيّة: Noyau et Nuage électronique ) فهي بذلت و مازالت كي يكون حصاد هذه المنافع و مُبكِّرا من نصيب النواتات الأولى أو ريعه يعود أوّلا على الحلقات العضويّة و المعنويّة من الدرجة الأولى المرتبطة بها ( منافع عائليّة و جهويّة وحزبيّة و قطاعيّة و هذا تمّ حتى داخل الأحزاب...) وهذا مؤشِّر على بروز التآكل المعنوي و الرمزي لعالم الأفكار ( و خاصّة الفكرة الجوهريّة) و مُؤذِن بخراب الخلايا و الأنسجة و الأعضاء و الأجهزة ( الرسميّة و الأهليّة الجمعياتيّة) و المحمولة كلّها على أسنّة معاول الهدم المرفوعة بنواجذ هذه النواتات..

وظهر هذا جليّا و واضحا من خلال معاينتي البسيطة و الانسانيّة وهي نسبيّة بامتياز، قبل 1990 أو ما بين 1990 و 1996 سنة سجني أو طوال فترة السجن في السجون الصغرى بتونس و بعد 2000 مع المراقبة الإداريّة إلى حدود 2011 ثمّ ما بعد الثورة في مرحلة إعادة البناء الوطني إلى الآن، تقريبا لدى أغلب الشخوص (يمينا و يسارا و وسطا) الحاملة لهمّ التغيير و الرافعة لراية الانتقال من مرحلة الاستبداد إلى مرحلة الاستقرار في ميادين الفعل و الحرّية و في مدى تجانس رؤاها و في مدى إخلاصها و خلوصها و مدى رقيّها الداخلي و ترفعها على كلّ مدنّس يحط و ينقص من قيمة أدائها في المجتمع في القيادات و الزعماء أو في المريدين أو في الناس العاديين فإن نظرنا إليهم فرديّا ففي المسألة أخذ ورد ( بالنسبة للقيم على المستوى الفردي ومنها نفسي الأمّارة بالسوء) و تتطلب إعادة تطوير و تهذيب من نواحي عديدة منها المزيد من الرقي و الإخلاص و الخلوص مع تحسين قيم الصبر و الأناة واليقين والعمل الدؤوب و النافع و الإلمام بالأسباب و فهم و دراية بالواقع و الراهن وتقدير الحاجات و الاعداد الجيّد.

أمّا على المستوى الجماعي فكما يقال " على عينك يا تاجر فباستثناء بعض اللحظات الفارقة و القصيرة وخاصة من بداية 14 جانفي 2014 إلى حدود الانتخابات الاولى سنة 2011 التي توفّرت فيها بعض الشروط (لكن اعترتها بعض بوادر الخلفة والتنازع مع بداية استحضار الواعز الايديولوجي و المصالح الفئويّة القطاعيّة و الحزبيّة..) فإنّ بقيّة المسار يؤشّر بكوننا ما زلنا على تواصل مع عدم القدرة على توفير شروط و ظروف و أدبيات التغيير من أجل بناء وطن حرٍّ، عزيز و عادل بين أبنائه و فئاته و قطاعاته وجهاته... و درب الحريّة ما زال طويلا و شاقا ... أمّا الشخوص الموجودة الآن فلا أراها قادرة إلاّ على توفير لبنة للبناء و خميرة ففيها الغث و السمين، و العصارات التي تقدّمها فيها دخن و ليس صافيا للحدّ الذي يمكّن من البناء السليم و بالتالي على ما أرى لا يمكن التعويل على مجهودها و انتاجها و لا ربط الآمال بها لتنجز على الأقل ما وعدت به...لأنّها و ببساطة فاقدة لرمزية القدوة الحسنة و فاقدة لروح العطاء من أجل الكلّ....

و على المؤمنين بعدالة دولة الحريّة العمل أكثر و الحفاظ على المكتسبات المتوفّرة و لو في حدّها الأدنى و الإعداد الجيّد و الاستعداد و العمل حتّى تتوفّر شروط و ظروف أفضل كي يعبر وطننا بنا و معنا لضفّة الحريّة و المسؤوليّة و العمل الجاد و التي لا تراجع و لا محيد عنها لكلّ الأوطان التي تصنع حدثها و هامشها و مستقبلها حتى لو تطلّب ذلك انتظار عقودا أخرى... مع ترك المجال و الفضاء و التربة الخصبة لمن سيولد من أصلابنا…

و للنجاح في ذلك علينا تجنيب أبنائنا المنازعات و الخلافات و أن لا نورثّهم مسبّبات إخفاقاتنا الأوّليّة، و أن نغرس في مهجهم التعلّق بالعمل و الكدّ و فهم السنن و العلم وفق قاعدة الإفراغ و الملْء.....

» وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»الأنفال:46 «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ»البقرة:213، « وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.»الشورى: 14، « وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ » آل عمران: 9. «وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» الجاثية: 17 .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات