وطني الأخضر دائما، وإن انحبست الأمطار و عمّ الجفاف، فهو ذلك الكائن الحضاري المنتج لمغذياته الحيويّة، بعد تفاعلات مع محيطه الخارجي، مواده العضوية يصنعها في ملتقى ما بين أوراقه الهوائية وعناصره المعدنيّة تتوزّع على سطح وأعماق تربته الممتدّة مابين صحرائه الشاسعة و فيافيه وجباله....
وطني الأخضر الذي يختزن بين طياته وسجلاته وذاكرته ومتاحفه، كلّ أنواع البطولات و الانتصارات وصناعة الحياة كما يسجل في دفاتره السريّة وفي غياهب بعض مراكز قواه أو على خريطة أجساد أبنائه و ذاكرتهم، أنواعا معدودة من الانتهاكات والعذابات و التهجير القسري و الاغتيالات و التفقير و التفسيد والإفساد و الإذلال و التصنيع للأميّة المركّبة...كأضاحيّ (بالدم وبدونه) تقرّبا لوجه المستبدين الذين تتالوا تترى(فرادى وجماعات) على أسطر كتاب تاريخه القديم والحديث و لإرضاء غرور فطري مستفحل للسلاطين…
وطني الصبور والحليم الذي تعوّد جرف كلّ مستخرجات الاستبداد والفساد وكلّ الإفرازات النتنة والفضلات والسموم التي يضخّها متعهّدي حفلات الخطايا ودواوين الوصاية على المقدّرات والمقتدَرات.
وطني الأبيض الذي يغتنم الطغاة منه كلّ ثرواته (بما فيها الأمخاخ والبترول...) عند كلّ غفوة حضارية أو استدارة لقضاء بعض الشؤون…
وطني الذي يتمدّد في كلّ مخيّلة دون جواز سفر، عبر الصحاري أو الجبال أو السهول أو عبر المتوسّط، فهو ذلك الكائن الحضاري البرمائي العابر لكلّ الحدود المصطنعة الواقعيّة والإفتراضيّة.
وطني ...ذلك الكائن الحي الذي يتنفس بصفة سواء، في الهواء، في التراب أو في الماء، دون أن يحتاج للتزوّد بمضخات للتصفية أكسجينه من مختلف مواده السائلة أو الصلبة أو الغازيّة…
وطني.... الذي يمتلك رونق طفل زاخر ومفاخر، خارجا لتوّه من قاعة امتحاناته وبعد اختتام كلّ مناظراته، والذي يمتلك عبق عروس البحر الأبيض المتوسط التي تنجب بعد كل عقدين أو أكثر عناقيد للغضب والثورة والحريّة.... وهو أيضا من يلبس لبوس العزّ بعد كل ملحمة يختلط فيها الحلم بالدم والعرق والغبار ....
وطني المسافر الذي أتعبته عمليات الإجهاض المتواطئة ومخاضات الولادات العسيرة وتجارب الحقول المغناطيسيّة التي تدار وراء الأبواب المغلقة وفي الدهاليز وبين أكاديميات التكوين السياسي…
وطني المستقلّ.... الذي أنهكته الأيديولوجيات المركّبة و المحنّطة و النظريات الوافدة والقاصرة والعقل القطاعي الفئوي والثرثرة النخبويّة وعصاب الثقفوت والمغنواتية ونظريات التحليل السياسي ألما- بعد حداثية لجملة من أقزام الكرونيكيرات الذين ظهروا كطفح على جلد المؤسسات الإعلاميّة…
وطني...وطن الزيتون والرمان و النخيل والياسمين والنسري والفسفاط والبترول و التنّ و الحيتان و الأنعام...وطن الأعراس و المهرجانات والفنون والمسرح والسينما و الرياضة والتربية مع التعليم...وطن الشواطئ والبيادر والحقول و الساحات و الكهوف والسدود والمراتع والمراعي...وطن السنابل والمناجل والمواجل والمواجع والآهات و الأفراح...وطن الكروم والورود و الزيوت وروح النعناع و الزعتر و الاكليل و الزهور...وطن الفلاقة و الصبايحية و العمدة ورئيس الشعبة و المخبر و السكير والعربيد والمتديّن، والطبّال و النافخ في المزمار والمزود والشعر الشعبي....وطن السباحة واللياقة والذكريات وأدب السجون...وطن الأغاني و الأهازيج و المالوف و الصالحي و ترديدات الأديب...وطن الخيل والبغال و الحمير، وطن الجَمال و الحسن والكمال والحمّال و الراديو الافتراضي وقناة سبعة وإذاعة شمس وجرائد ومجلات نجد أغلبها بعد طبعها عند الكسكروتاجي…
وطني.... وطن الزيتونة وعقبة... وجامعة منوبة وقرطاج... ومعهد الكارنوا و معهد المنصورة... ومدرسة الصادقية و الراقوبة الحمراء... وطن الجلّول و المستوري، القطي و كسيلة، الهمّامي و البوغلاّب، الغنوشي و السبسي، بيّة والواعر، جنيّح و الرياحي، صليحة وزينة القصرينيّة…
وطني ...وطن جمعية النادي الإفريقي والنجم... جمعية الإصلاح وجمعية شمس...، رابطة حقوق الإنسان ورابطة الكرة الهاوية...، مستشفى الرابطة ومستشفى سهلول...، بنك الزيتونة وبنك الإسكان…
وطني.... مكوّن من كلّ هذا، يتنفس ولو بصعوبة تحت الماء وفوقه، في باطن الأرض أو عليها، في الهواء أو يصّعد في السماء....في تمدّده أو في حالات تقلّصه القصوى، أفقه يتبع السحاب و إسّه ثابت كأوتاد الجبال، ملمسه كملمس الماء لحبات الطين والرمال، وحرارته من يستخرجها من، ألوان أطيافه المرئيّة أو أشعته ما تحت الحمراء أو ما فوق البنفسجيّة…
وطني ...موطن العزّ والوفاء و الخيانة والجحود و التفريق و الجهويات المستبطنة و المناطق الرخوة ومناطق الظلّ و مدارج الأمراء و السفراء و مدارج الجامعات و المسارح و الأحباء…
وطني لكي يستيقظ باكرا و ينشد الإعمار والبناء لابد أن يستنشق الحريّة والعدالة و اللامركزيّة، و أن نبعده عن القسمة الضيزى التي دأب على انتهاجها كلّ من أصرّ على تكوين لجنة لتصريف انسداد بعد كلّ أزمة…
وطني .... لكي يحققّ توازنه الوجداني و المالي والسياسي و الاجتماعي ومن ثمّ الحضاري، لابدّ من أن لا نلوّث فضاءه (المعرفي، الفني، الصوتي و البصري...) بكلّ قاذوراتنا و إفرازاتنا و بقايانا ومن منّا لم يستطع على ذلك صبرا فإمّا أن يرسكل بقاياه أو ينكفئ....
وطني ...وطن الأحرار... و الشهداء و الأبطال...ولكي ننعم به و ينعم بنا... ينعّمنا و نُنْعمه...وجب أن ندعه الفضاء كي يتنفّس...لأنّ الإختناق و الإنسداد يولّد الإنفجار، و سدّ منافذه بحجر الصوّان تجبره على تفتيت الحجر و مصادرة اليد التي وضعت الجبس ما بين حاشية الفتحات و الحجر...
ولمن يعتقد غير ذلك فما عليه إلاّ تدبّر «التاريخ في ظاهره لا يزيد على الإخبار وفي باطنه نظر وتحقيق» وتعقّل ما في الجغرافيا السياسيّة من تحوّلات…
لذلك و لكلّ هذا و لكلّ غير هذا...و لنخبنا المختلفة والمتعدّدة، المهيكلة و الغير مهيكلة، الهاوية والمحترفة أو المنحرفة...أن تدع وطني يتنفّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــس......
دمتم سالمين.