من خلال متابعتي المتواضعة و الحدسيّة لآداء الحكومة التفاوضي طوال الأمتار الأخيرة لترسيم قانون الماليّة 2017، أعتقد من جهتي (و المؤكّد أنّ هذا الرأي يخالفني فيه الكثير خصوصا الرّاسخون في العلم اللدني القطاعي والمنظّماتي الحمائي والذي ينطلق من الحميّة القطاعيّة والمنظّماتيّة...) أنّ هذه الحكومة التي يمكن أن يقال فيها الكثير من النواقص و المثالب فد أفلحت أيّما فلاح و مارست بدهاء أقصى أنواع التفاوض مهارة و نجحت فيه نجاحا مقبولا بالرغم من نسبيته، وخلخلت بعض البديهيات المقدّسة القطاعيّة و عرّت كلّ المقولات النخبويّة البوست - لغويّة حول العدالة والتمييز الإيجابي والتضحية من أجل تحسين متطلبات الوطن الساعي للانفلات من سطوة التهرّب والعدالة الجبائيّة…
وفنّ التفاوض، سادتي، يستند في نوتاته على المعرفة بالدقائق حول الإمكانيات والقدرات المتاحة وبالحدود القصوى للضغط التي تمتلكها أيّة حكومة لتحقيق التوازن المطلوب ولو كان هشّا والتي لا تولّد مزيدا من الإحتقان الإجتماعي...إضافة للمعرفة بالأرضيات الصلبة والهشّة التي يقف عليها المتفاوض معه وحدود تحقيق الأهداف المرجوّة في ظل طغيان النرجسيّة القطاعيّة والمنظماتيّة وتوتّرها وتحفّزها ولو كان فيه خسارة وطن…
و لأنّ هذه الحكومة تعلم يقينا أنّها لا تستطيع تطبيق بعض المعالجات و الإصلاحات التي تراها صالحة دون استثارة وإثارة قصوى وفيد حدّها الأعلى، نتيجة تعدد وتمدّد الحصانات والتقوقعات القطاعيّة والفئويّة داخل منظومة الدولة والوطن الذي لم تترك له مساحة زمن للنقاهة ( نتيجة تحلّل مفاصل الدولة لاعتبارات ذاتيّة وموضوعيّة...) فقد طرحت حزمة من الإصلاحات أمام بعض الكهنوتات القطاعيّة ودون استشارتها مطوّلا وعن قصد لكي توجّه الأنظار الدغمائيّة والتي تعوّدت على قصر النظر الفئوي الذي تجسّم في الدفاع العشوائي عن الوجود ( تراكمات الإمتيازات والمنافع تجعل للمنتفع الدفاع المستميت عليها ونسيان الثغور الصغيرة الأخرى التي يمكن الولوج منها... مثل من ينفق جهده وماله وقوّته في حراسة باب والتغافل عن حراسة نافذة …
الأمثلة عديدة وأحسنها حادثة صور الصين العظيم التاريخيّة وهذا سهّل للحكومة من حقن وتسريب حدود معقولة في ثنايا القانون أُجبر الجميع على الرضى بها حتّى لا نمرّ لسنة جديدة دون قانون واستعملت الحكومة كلّ أدوات زينتها ( مقايضة، مخاتلة، مغافلة تذمّر وتخوّف... مثل طرح عودة الدواعش...) وسؤالي المركزي ماهي الإمتيازات التي تحصّل عليها الإتحاد بعد التهديد بالإضراب العام؟، وكيف تحقّقت الامتيازات الأخرى للعمادات المختلفة بعد مجمل تحرّكاتها؟
في رأيي المتواضع ما حقّقوه ( في نظرهم كمطالب) لا يستحقّ كلّ تلك العروض المشهديّة في الساحات والإعلام... وما بقي راسخا في ذهني هو أنّ الحكومة أصابت باهتزازاتها القانونيّة كلّ العروش المتنرجسة ورمت رمية ارتجاجيّة في مياهها الراكدة والعكرة ( التي لم يستطع أحد قبلها ملامستها أو الإقتراب من عريشها وعسلها) وهذا أساس كلّ فنّ بأن تحشر كلّ قطاع للتمركز حول ذاته المتضخّمة والنفخ للمزيد من تغوّله وتضخيم نرجسيّته القبليّة الـعربانيّة ولن يكسب من تشنجاته العضليّة والذهنيّة غير التشوّهات القيميّة وشلل للأعصاب الوجهيّة ( Paralysie faciale). كما أعطت الحكومة لنفسها مساحة ورائيّة للتراجع والإلتفاف لإعادة التأقلم والتكيّف من جديد مع الأوضاع الجديدة وهذا التكتيك إن صدقت النوايا الصامتة ليمثّل أوّل لبنة لبناء قوّة رمزيّة للحكومة في طرق المواجهة ضدّ الكيانات المتنطِّعة والمتضخِّمة والتي مازالت تمنّ بالتاريخ من أجل الإستحواذ على المنافع والجغرافيا مع الهروب للأمام في مواجهة الإستحقاقات الحقيقيّة التي تقف حاجزا أمام تطوّر التنميّة بكلّ أشكالها في ساحة الوطن تحت يافطة المقولات الخدّاعة حول التنميّة والعدالة والإستقلال بكروش متضخّمة لا تتخلّى أبدا عن حاجاتها الفائضة إلاّ في بيوت الإستحمام وقضاء الحاجة...
وهذا المسار التفاوضي يبقى من أنجع السبل حتّى وإن ترافق بتوافقات هشّة في ظلال التهديد بسيوف الإضرابات والإعتصامات لكن في ظلّ تمشي ديمقراطي ناشئ عوضا عن مكاسب جمّة ظاهريّا تحت ضغط السياط والعصا الأمنيّة الغليظة لدكتاتوريات العُرْبِ وطبوع استبداداتها المتأصِّلة في ربوعنا والتي ترسّبت عشّشت في ثنايا أذهاننا وطوايا نفوس كلّ منّا نتيجة التراكمات والتفاعلات التاريخيّة والثقافيّة والجغرافيّة والسياسيّة... التي تزامنت مع التخلّف والفقر والاستقالة والبطالة والتديُّنات والتداينات والأيديولوجيات العقيمة والعقول الهاوية والعاطفيّة والقبليّة في بنيتها الأوّليّة....